قلت أول من أمس إن حبستى فى مبنى مستشفى سجن مزرعة طرة الذى يقيم فيه المخلوع مبارك منذ مطلع الأسبوع (لست أعرف إن كان سيبقى فيه حتى تقرأ هذه السطور)، كانت أفخم «حبسة» كابدتها خلال مشوار «حبسات» طويل نسبيا بدأته مبكرا، وقبل أن أبلغ عتبة العشرين عاما، وربما استوقفتك إشارتى إلى أن هذه الفخامة (كانت بالنسبة إلىّ شكلا يعاكس المضمون تماما) فُزْت بها «مجانا».. طبعا، كلمة «مجانا» تلك تثير فورا سؤالين، أولهما: وهل الحبس فى هذا المبنى الذى يحمل صفة مستشفى لا بد أن يكون بمقابل؟ أظن أن الإجابة واضحة ويستطيع القارئ متوسط الذكاء أن يلتقطها بسهولة من عبارة «عِلية القوم» التى نعت بها أغلب رفاقى فى العنبر رقم (1) بالمستشفى المزعوم، إذ كان هؤلاء جميعا من كبار اللصوص سِنًّا ومَقامًا لكنهم يتمتعون بصحة جيدة جدا على الأقل. باختصار، الإجابة هى نعم كان هناك مقابل لا بد من دفعه ثمنا لهذه الحبسة الطرية التى يستحيل أن تتوفر للمساجين الغلابة العاديين، غير أن هذا الثمن ليس له دائما صورة واحدة وإنما صورتان، فإما أن يكون مالا (أى رشوة مباشرة ومنتظمة) أو نفوذا وظهرا قويا لا يسمح بضرب اللص السجين على بطنه. يبقى السؤال الثانى: لماذا؟ والحال كذلك، فاز عبد الله الفقير بالإقامة فى هذا المستشفى رغم نعمة الصحة ونعمة الفقر اللتين كنت وما زلت (والحمد لله) أتمتع بهما؟! كل الحكاية أننى وثلاثة زملاء أعزاء رافقونى فى هذه الحبسة، تفضل علينا نظام المخلوع وقرر حبسنا مُددًا مختلفة بتهمة العمل بمهنة الصحافة، غير أنه ذرًّا للرماد فى العيون وإثباتا لحسن نياته «الوطنية الديمقراطية» جدا قوى خالص منحنا إقامة مجانية فى مستشفى سجن المزرعة واستثنانا من شرط الدفع! وأعود إلى نُتف من فيض الذكريات والحكايات التى راكمتها خلال إقامتى لمدة نصف عام كامل فى العنبر رقم (1) الذى أرجّح أن مبارك يقيم فيه الآن بعد طرد كل نزلائه، وأختار من هذا الفيض (لضيق المساحة) حكاية واحدة أو بالأحرى، مشهد واحد أظن أن فيه شيئا إنسانيا عميق المغزى ويحمل فى طياته عِبرة لأصحاب الألباب ومن يريد أن يعتبر: .. فى صباح شتوى غَالَب لطفه ثِقل وكآبة صباحات السجن المعتادة، تسرَّبتُ خارجا من باب العنبر لا ألوى على شىء (فى السجن دائما لا تلوى على شىء) وعبرت الطرقة المعتمة وتوجهت صوب الضوء الغامر الذى ظلل الحديقة الصغيرة المتاخمة للمبنى.. كان الحاج أحمد (أوضحت من قبل أن أغلب جيرانى فى العنبر كانوا يحملون لقب واسم «الحاج أحمد» من دون سبب واضح) يجلس كعادته وحيدا فوق الدكة الحجرية المنصوبة تحت تكعيبة العنب البائسة المهملة، ولأن الحاج أحمد هذا بالذات كان أطيب وأحب «حجاج» العنبر إلى نفسى، فقد شجعنى وجوده وحيدا تحت أشعة الشمس الشتوية الرقيقة على محاولة التمتع بها، فاقتربت منه وهتفت ملولا: صباح الخير يا حاج.. ورغم أنها كانت المرة الثانية التى نتبادل فيها تحية الصباح هذه (فى السجن مقبول جدا أن تبادل رفاقك التحية ألف مرة من دون أن تزهق أو يزهقوا)، إلا أن الحاج رد التحية بحماس شديد، ودعانى للجلوس بجواره ففعلت فورا، ثم لُذْتُ أنا وهو بصمت طويل جدا قطعه هو قائلا، وكأنه يحدث نفسه: - منك لله يا حاج سيد.. كده تعملها يابن اللذينة؟! قالها ثم كررها مرات عدة، فقاومت تلال الملل والكدر الراقدة فوق صدرى وسألته: - فيه إيه يا حاج؟ مين الحاج سيد اللى مزعّلك ده؟! - الحاج سيد.. شريكى فى القضية. - وده معانا هنا فى السجن؟! - سجن إيه.. ده ابن لئيمة، عملها وفلت.. منه لله بقى. - تقصد خد براءة.. - أبدا، اتْهَفّ نفس الحكم اللى خدته أنا والحاجة (يقصد زوجته التى هى أيضا شريكته فى «البزنس» والقضية معا). - طب وبعدين.. هل حكم النقض خرّجه؟! - أبدا برضه، اتأيد عليه الحكم زينا تمام، بس ابن اللذينة فلت لوحده.. منك لله يا سيد. - الحاج سيد فلت إزاى يا حاج أحمد قُلّى.. عنده كوسه وخد إفراج صحى؟! - صحى إيه، ده صحته ما شاء الله زى البمب.. - أمال فلت وخرج من السجن إزاى يا حاج؟!! - ابن اللئيمة مات.. مات ابن اللئيمة..!