لأننى جرّبت وكابدت عذاب السجون وأعرف جيدًا طعم الحرية المفقودة وكيف تكون الحياة على تخوم العدم وسط أبخرة الزنازين الخانقة، لهذا لا أميل ولا أحب بل أكره الشماتة فى أى إنسان يُحشر فى سجن مهما كانت جريمته ومقدار بشاعتها وثقلها، إذ يضحّى وهو رهين الحبس ضعيفًا هشًّا ويرتد هابطًا بحدة من علياء التجبر والغرور إلى تضاؤل وضعة يثيران الرثاء والشفقة.. حتى لا أقول التعاطف. تلك مقدمة أظنها ضرورية لكى أحكى للقراء الأعزاء عن خليط المشاعر التى هاجمتنى وفيض الذكريات الذى تداعى إلى رأسى عندما قرأت معلومة أن الأستاذ المخلوع حسنى مبارك يعيش منذ مساء السبت الماضى فى أفخم زنزانة أقمت بها فى كل رحلة الحبس الطويلة (أربع مرات وسبعة سجون وعدد لا يُحصى من التخشيبات) التى بدأتها قبل أن أبلغ عتبة العشرين عامًا. فأما المشاعر فربما تستطيع أن تستشفها وتخمن نوعها من سطور المقدمة، لكن الذكريات أهم، ولو أن مبارك من النوع الذى يقرأ أصلًا، فضلًا عن أن يكون من قراء العبد لله، لكان تسلّى فى وحدته القاسية (لن أقول اتّعظ لأن موعد الاتّعاظ فات بكل أسف) بنُتَفٍ سأحكيها حالا من قصص وحكايات الزنزانة الطبية التى هبط ضيفًا عليها من أيام قليلة.. غير أننى أبدأ بوصف جغرافيا المبنى الذى يحمل رسميا وطبقا للوحة الرخامية المشعلقة فوق قوس بوابته الحجرى اسم «مستشفى سجن مزرعة طرة» بينما لم يكن له فى الواقع (على أيامى) أى علاقة بهذه الصفة التى استعادها مؤخرًا (بكلفة بلغت 4 ملايين جنيه) بمناسبة اختياره ليقضى فيه المخلوع عقوبة جرائمه. يقع مبنى المستشفى الصغير المزعوم هذا فى زاوية قصيّة من سجن المزرعة تفصله عن العنبرين الرئيسيين المحشور فى جوفهما دائما مئات المساجين، باحة رملية واسعة نسبيًّا، وتبدو عمارته الإيطالية الأنيقة (تذكرك بالدير الصغير الذى تحول إلى مشفى حربى فى فيلم «المريض الإنجليزى») غريبة تماما عن باقى مبانى السجن القبيحة الرَّثَّة، وتحف بالمبنى المكون من طابق واحد حديقة (أو «برجولة») صغيرة جدًا أبرز ما فيها تكعيبة عنب مهملة تنتصب فى المنتصف تماما قبالة البوابة الحديدية التى ما إن تعبرها حتى تصدمك كآبة الضوء الواهن الملامس حدود الظلام والهابط بثقله على طرقة أو صالة ضيقة مربعة الشكل يطل عليها من اليمين بابان أولهما باب حجرة بدت لى الدليل الوحيد اليتيم على صدق تهمة المشفى المتهم بها المبنى ذاك، فهى كانت مقر عيادة أسنان معقولة التجهيز يزورها طبيب متخصص مرتين فى كل أسبوع، ويجاورها مباشرة باب عنبر يتسع لنحو عشرين سريرًا أو أكثر قليلًا، هذا العنبر أقمت فيه لمدة 6 أشهر (مجانًا لأسباب سأشرحها لاحقًا) مع مساجين آخرين كلهم من عِلية القوم وليس بينهم مريض واحد، لكنى لاحظت أن نسبة كبيرة من هؤلاء يتمتعون باسم ولقب «الحاج أحمد».. لماذا؟ لا أعرف..! أما على يمين الصالة فهناك بابان آخران أحدهما يفضى إلى حجرة مدير المستشفى الذى هو نفسه طبيبها الوحيد الدائم، وهو كان على أيامى طبيبا متخصصا فى أمراض النساء، وقد نقل إلى هذا السجن الرجالى على سبيل العقاب بسبب ما شاع عن ارتكابه مخالفات أخلاقية فى سجن القناطر النسوى الذى عمل فيه فترة طويلة! الباب التالى المجاور هو باب عنبر المستشفى الثانى والأخير، ولكى أكون منصفًا فإن هذا العنبر لم يخل (عندما كنت مقيمًا هناك) من ثلة مساجين غلابة كلهم مَرْضَى بأمراض خطيرة غير أن فئة المساجين المترفين المدلعين زاحموهم وتسببوا فى إخراج بعضهم من تلك الجنة البائسة بحجة ضيق المكان. و.. كما ترى، فقد ضاق المجال وتآكلت المساحة، فأستأذنك أن أكمل باقى نُتَف الذكريات بعد غد، إن شاء الله.