أرجو أن لا أكون متجاوزا كثيرا لحدودى ككاتب ليس متخصصا فى النقد السينمائى لو ختمت سلسلة مقالات العيد هذه بالسؤال الآتى: هل كان للسينما المصرية إسهام حقيقى فى مجابهة الاستبداد والانتصار لقضية الديمقراطية عموما وعلى الأخص تعرية وفضح ديكتاتورية حسنى مبارك ونظامه الفاسد الذى طال ثلاثين عاما؟! إجابتى بكلمة واحدة هى «لا»، بل لعلى أرى أن العكس تماما هو ما حدث فعلا، فعدا استثناءات قليلة جدا وضعيفة التأثير (بسبب غرق أغلبها فى الرمزية والإبهام)، وعدا الاستخدام المبتذل لموضوعات الفساد بعد تحويلها (كما فعلوا مع قضية المخدرات من قبل) إلى «تيمة» تجارية شديدة السطحية، فإن عددا ليس قليلا من منتجات السينما المصرية فى العقدين الأخيرين بالذات حاول تكريس فكرة وصورة الديكتاتور الحنون الطيب «أبو الشعب» الذى ليس بريئا فحسب من كل اعوجاج أو انحراف، بما فى ذلك الفساد المتفشى فى نظامه، وإنما هو دائما وأبدا معقد الأمل وملاذ البسطاء والغلابة والمظلومين.. وانظر أرجوك فى فجاجة وسخافة أفلام من شاكلة «طباخ الرئيس» و«جواز بقرار جمهورى».. إلخ. هذا السؤال عينه الذى بدأت به سطور اليوم سأله كثيرون عن دور سينما هوليوود الأمريكية فى المعركة التى خاضها المبدعون والمثقفون الغربيون ضد النازية والفاشية خلال سنوات صعودهما فى عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضى، وكانت الإجابة سلبية أيضا، ذلك أن هوليوود لاذت بخرس وصمت ملحوظين تجاه الظاهرة النازية (لأسباب معقدة يضيق المجال عن ذكرها) حتى اضطرت أمريكا الرسمية إلى دخول الحرب العظمى الثانية ضد ألمانيا وباقى دول المحور الفاشى النازى بعد عامين كاملين من اندلاع هذه الحرب وبعد الغارة الساحقة الماحقة التى نفذتها (يوم 7 ديسمبر 1947) قوات البحرية اليابانية على ميناء وقاعدة بيرل هاربر الأمريكية الضخمة. الصمت والخرس الهوليووديان هذان لم يقطعهما سوى فيلم يتيم، لكنه أتى قويا وواضحا فى رسالته، فضلا عن كونه تحفة فنية حقيقية أنجزها (فى عام 1938) أعظم مبدع فى تاريخ الفن السابع، ألا وهو شارلى شابلن الذى اختار لهذا الفيلم اسم «الديكتاتور» وجسد فيه شخصية هتلر تحت اسم مستعار هو «هنكل»، وكذلك شخصية حلاق غلبان ملامحه تشبه ملامح الزعيم النازى، مما أضاف سببا جديدا (غير أنه يهودى) لاضطهاده والتنكيل به. إذن تحدى شابلن بهذا الفيلم الصمت الأمريكى الذى لم يخل من شبهة تواطؤ وربما تعاطف، مع رجعية وعنصرية المشروع النازى، ومَرَ فيلم «الديكتاتور» بصعوبة بالغة من بين المتاريس والقيود التى وضعتها -آنذاك- ما تسمى «لجنة الكونجرس (لمتابعة) النشاطات المعادية لأمريكا» لمنع أى أعمال فنية تهاجم أو تسخر من هتلر، وقد دفع شابلن بعد سنوات قليلة ثمنا فادحا لهذا التحدى (وغيره من التحديات المتخم بها سجله الإبداعى العظيم) عندما وضعته لجنة النائب ذائع الصيت وسيئ السمعة جوزيف ماكارثى (1908/1957) فى مطلع عقد خمسينيات القرن الماضى (مع المخرج الكبير إليا كازان) على رأس قوائم «المشبوهين» المتهمين بموالاة الشيوعية والاشتراكية، مما اضطره إلى الهرب ومغادرة أمريكا نهائيا. ويكفى من فيلم «الديكتاتور» مشهدهه الخالد الطويل الذى يظهر فيه الحلاق اليهودى الغلبان شبيه هتلر وقد هرب للتو من أحد معسكرات الاعتقال، لكن قدميه تقودانه مصادفة إلى حيث سيخطب الزعيم النازى، وعندما يراه الحراس يظنونه زعيمهم ويجعلونه يصعد إلى المنصة التى سيلقى الحلاق من فوقها خطابا إنسانيا رائعا ومناقضا تماما لكل نظريات هتلر وكل ممارساته وارتكاباته، فهو قال مثلا: «ألا تلاحظون كيف أن الجشع صار يحيط عالمنا الراهن بسياج جهنمى من الحقد والكراهية ويهبط بنا إلى مستنقع البؤس والدم؟! لكن إياكم أن تيأسوا، فالديكتاتوريون يفنون فى النهاية، كما أن السلطة التى اغتصبوها عائدة لا محالة إلى الشعوب.. وما دام أن الناس يعرفون كيف يموتون ويضحون بأرواحهم فإن الحرية لن تفنى أبدا». و.. كل سنة وأنتم طيبون.