هل لكل كتب الطب فائدة إن لم يكن الإنسان يغسل يديه قبل الأكل وبعد استخدام الحمام؟ لا. الإنسان الذى يقرأ كتب الطب لكنه لا يلتزم بالمبادئ الصحية البسيطة يشبه الحمار الذى يحمل كتبا على ظهره ولا يفقه منها شيئا. هكذا مكان عبور المشاة. رسالة احترام وتراحم توجهها الدولة والمجتمع والمواطن إلى المواطن. رسالة أفضل من كل البيانات العسكرية والخطب الرئاسية والمقالات التى تنادى بالكرامة والحرية. ورسالة أهم من ذكريات الصحفى الفلانى عن نجاح مصر فى كسر المؤامرة الدولية منذ خمسين سنة، وأهم من أهم كتاب عن التربية الوطنية. لأن مكان عبور المشاة تربية «وطنية» عملية على أن الوطن يحترمنى كفرد ويقدر حياتى وحياة أطفالى بغض النظر عن وضعى الاجتماعى وعن رصيدى فى البنك وعن معتقدى. وهو تراحم اجتماعى بين راكب السيارة مهما كان نوعها والسائر على قدميه سواء كان شابا أو شيخا أو طفلا. مكان عبور المشاة هو قول السيد المسيح والنبى محمد والحكماء الذين سبقوهما أو جاؤوا بعدهما مكتوبا على الأرض، أن أحب لأخيك ما تحبه لنفسك. وهو -لو تفكرت فى غرضه- القانون فى قلب روح جوهره. إن كنت تقود سيارة وتوقفت قبيل مكان عبور المشاة فإنك تقول للعابر من الناس: إننى أراك، أنت إنسان من روح ودم ولست كما مهملا. ليس من حقى أن أستأثر بالطريق لأنى أجلس فى سيارة بينما تسير أنت على قدمين. أى تصادم بينى وبينك لن يؤذينى فى شىء لكننى رغم ذلك أتوقف لأنه سيؤذيك وقد يودى بحياتك، وأنا حريص عليك. أما إن كنت ماشيا على قدمين وأصررت على استخدام مكان عبور المشاة فأنت ترفع كتاب الحقوق المقدس بيدك عاليا، وتحتكم إليه. أنت تؤدى دورك فى إقرار دولة القانون والإصرار عليها. صدقنى إن الإصرار على حقوقك الصغيرة هو السبيل لكى يصير القانونُ الحكمَ فى الأمور الكبرى. لكننا إذ نتحدث عن القانون نعود إلى حيث بدأنا. إن هذا «التغيير الضخم جدا جدا» لن يتحقق إلا بسلطان. بخطوط سوداء وبيضاء يتعارف عليها العالم كله، بإضاءة واضحة ويفط واضحة حاسمة تخبر السائقين أن هذا مكان الأولوية فيه للمشاة، بقانون يعلمه الجميع، وبعقوبات صارمة لمن يخالف، بآليات عملية لضبط من يخالف. نريد أن نبدأ فورا بنموذج فى حى معين يمتد إلى ما يجاوره من أحياء. تعالوا نبدأ من الأقاليم لعل القاهرة تدرك أن قوانين المرور ممكنة التطبيق، ليس فقط فى دول الغرب والشرق البعيدين، وإنما على بعد خطوات. تعالوا نبدأ أمام المصالح الحيوية وأمام المدارس. تعالوا نبدأ بمطبات صناعية قبيل مكان عبور المشاة بأمتار خمسة حتى نتعود. المهم أن نبدأ. المهم أن نقول للمواطن السائر على قدميه: إنك مهم وإننا جميعا نقف احتراما لك. الشارع المصرى يكاد لا يلتفت للمواطن السائر على قدميه ولا يكترث به. مدينة أسيوط، التى تجملت مؤخرا بطلاء مبانيها بنفس اللون، تخلصت من الأرصفة نهائيا، فى تصرف لم أر مثيلا له فى مدينة أخرى. حجة من أيدوا هذا القرار أن المشاة لم يعودوا يلتزمون بالرصيف فى سيرهم. ولو فكر هؤلاء قليلا لوجدوا أن الناس لا يلتزمون بالأرصفة لأن الأرصفة لم تعد معدة للسير. إما لأن محلات البقالة تشغل أجزاء من الرصيف، وإما لأن المبانى تشغل أجزاء من الرصيف بمداخل جراجاتها الأرضية، وإما لأن السيارات تسد الأرصفة، إلى آخره. لو أردنا إصلاح الوضع فعلينا أن نحل هذه المشكلات ونعيد الحياة إلى الأرصفة، لا أن نلغيها، كمن كُسرت يده فقطعها. تخطيط المدن يجب أن يعتمد فلسفة المدن، التى تتسم بالنظام والالتزام. وهو أيضا تخطيط وظيفى لا يترك الأمور -فى الحيز العام- لرغبات الأفراد العشوائية. الرصيف له دور، إشارة المرور لها دور، الأسهم والاتجاهات لها دور، وأماكن عبور المشاة لها دور. لو أنجزنا هذا فقد أنجزنا إنجازا ضخما يعيد الحياة للمدينة المصرية التى تتآكل مفرداتها منذ ستين عاما.