إذا كنت زائرا للعاصمة المصرية القاهرة وترغب في الاستمتاع بالسير في شوارعها وتفقد معالمها في نزهة مع الأصدقاء سيرا على الأقدام و تفاديا لتكدس المرور المعتاد ، فيجب عليك أولا أن تتخلى عن الاعتقاد السائد من قبل ، بأن "الرصيف مخصص لسير المشاة .." فهي معلومة غير معترف بها في شوارع القاهرة التي ترفع دون غيرها من بقية الشوارع في مدن العالم شعارا أخر ، هو"استخدام الرصيف حق للجميع فيما عدا المشاة ،" الشعار الذي قد يعتقد البعض بأنة مزحة للسخرية من تكدس المرور ، بات يمثل للملايين من سكان القاهرة أزمة حقيقية يعيشونها هذه الأيام بعدما تحولت المزحة إلى واقع مرير يفرض نفسه و قانون غير معلن يحاصرهم ليل نهار ، فالرصيف الذي ظل لسنوات طريقا حيويا للمشاة يجنبهم مخاطر السير في نهر الطريق ، شهدت الفترة الأخيرة خروجه من الخدمة نهائيا ولم يعد صالحا لاستيعاب أو امتصاص جزء من كتله المواطنين السائرين على أقدامهم وأصبح نموذجا مثاليا للانتهاكات والتجاوزات والعشوائيات.. فالمحلات التجارية ، لم تكتف فقط بعرض بضائعها بالداخل وإنما سعت للتوسع على حساب الرصيف ، فألتهم كل صاحب محل تجارى الجزء الذي أمامه من رصيف المشاة وتجاوزه في بعض الأحيان حتى عرض الطريق.. ومع غياب تام لرجال المرور ، باتت سيارات الأجرة هي الأخرى ، تفعل ما يحلو لها بالقفز إلى رصيف المشاة.. تارة كجراج وأخرى للسير فوقه ، وهناك أيضا الباعة الجائلون والذين أجهزوا بدورهم على ما تبقى من الرصيف في مناطق كثيرة من شوارع القاهرة . فوق القانون ويقول منير سعيد (محامى) : هناك تراخيص لبعض المحلات الصغيرة التي لا تتعدي مساحتها ستة أمتار ، تحتل هي وغيرها الرصيف لحسابها الخاص وتأخذ معها عرض الشارع تبيع وتشتري ، كما تشاء ولا احد يحاسبها،وهذا كله أمام أعين الناس ، ولا احد يتكلم لان أصحاب المحلات والباعة الجائلين وضعوا أنفسهم فوق القانون، ويضيف : كان رصيف المشاة فيما مضي ملكا خالصا وحقا مكتسبا للسائرين علي أقدامهم ، من هنا اكتسب اسمه: رصيف المشاة ، وكانت نصيحة الآباء والأمهات التقليدية لصغارهم امش على الرصيف.. لكن أين هذا الرصيف الآن؟ ، لقد اختفى المتاح منه تحت كل صور التعديات. و أصبح حكرا لأصحاب المقاهي ، وحقا مكتسبا لتجار "الشنطة" والباعة الجائلين ، وتحولت أجزاء كبيرة منه إلي أماكن للانتظار وجراجات للسيارات... ويقول علاء إبراهيم "مدرس": الرصيف أصبح نموذجا للمشكلات اليومية التي تواجه المواطنين لأنه أصبح مستباحا للكل فيما عدا المشاة.. فالتجار يريدون استغلاله وتملكه بوضع اليد ، بينما الباعة الجائلون يرون فيه متنفسا لعرض بضائعهم في أماكن لا يستطعون فيها شراء محل قد يتجاوز ثمنه عدة ملايين من الجنيهات ، فيكون البديل احتلال الرصيف وإجبار المشاة على السير في نهر الطريق ، ناهيك عن تصرفات بعض سائقي السيارات الأجرة والدراجات وسيرهم على الرصيف لاختصار مسافة أو تجنب السير في طريق مزدحم بالسيارات ، وما لم يتم التوصل إلي حل شامل لمشكله الرصيف فسوف يظل حديثنا عن الانضباط وسيوله المرور ونظافة العاصمة حديثا بدون معنى، استخدامات أخرى كما أصبح من المعتاد لمن يغامرون بالسير فوق الرصيف ، سماع احد الباعة الجائلين يصرخ "كبسة" فيتدافع بقية زملائه من الباعة ليلملمون بضاعتهم بسرعة وحملها والاختباء بها بعيدا في شارع جانبي قبل أن تقدم عناصر شرطة المحافظة ليصادروا كل ما تقع عليه أيديهم. هذا المشهد يتكرر يوميا ليكشف سلوك البسطاء من أبناء الطبقات الفقيرة الذين يفترشون أرصفة شوارع القاهرة ويعرضون بضاعتهم البسيطة كالصحف والمجلات والملابس القديمة والأعشاب الطبية ، ليؤمنوا قوت أسرهم التي تضم عددا من الأفواه الجائعة. ويروى خالد فؤاد - 42 سنة - انه جاء من مدينة دسوق ليعمل في بيع الملابس المستعملة على الرصيف في شارع 26 يوليو والذي يجني من ورائه يوميا حوالي 15 جنيه . ويضيف "آتي إلى هنا مساءً لأعرض بضاعتي البسيطة التي لا تَسلم في العادة من دوريات الشرطة ، غير أنهم أحيانا يراعون ظروفي المعيشية فيكتفون بأخذ جزء يسير من البضاعة" ويشير إلى أنه وغيره من الباعة الجائلين يعملون دون ترخيص أو حماية قانونية والسبب في ذلك هو الفقر .." أنا لا استطيع شراء محل في اى مكان حيث يتراوح اقل سعر لمتر الأرض لأي محل في القاهرة من عشرين إلى ثلاثين ألف جنيه فمن أين لي ولغيري بواحد في المائة من هذا المبلغ ؟ وعلى الرصيف أيضا يعمل"محمود الزقازيقي في بيع الصحف والمجلات المحلية والعربية ، إضافة إلى صور مجموعة من الفنانين وبعض المناظر الطبيعية ويحقق دخلا يوميا يتراوح بين 15 20و جنيه. و يشير إلى أنه يعاني يوميا من مطاردات شرطة المحافظة باعتباره يشغل حيزا كبيرا من الرصيف.. ويقول :"ما باليد حيلة، افرش على الرصيف ولا أموت من الجوع أنا و أولادي ما اعرفش اشتغل حاجة تانية ، ويقترح أن تقوم الحكومة المصرية بتخصيص سوق خاص لباعة الرصيف في كل ميدان او شارع كبير"ليتمكنوا من عرض بضاعتهم على غرار ما هو شائع في الدول الأوربية. اسواق الرصيف وظاهرة أسواق الرصيف في شوارع القاهرة ، بدأت تعلن عن نفسها بوضح خلال السنوات الخمس الماضية ، نتيجة لغلاء أسعار البضائع في المحلات ، فبات يقبل عليها أبناء الطبقات الفقيرة من الشعب ، الأمر الذي دعا البعض لتسمية هذه الظاهرة "اقتصاد الأرصفة" نظرا لإقبال غالبية من لا يجدون عملا - 10 % من الشعب المصري - عليها في حل مشكلتهم.. فمن خلال رأس مال لا يتجاوز المائة جنيه ( اقل من 17 دولارا امريكيا ) يمكن لأي عاطل عن العمل أن يشترى سلعا بسيطة - كالمناديل والملابس المستعملة والعطور - وبيعها على الرصيف وتحقيق أرباح بسيطة توفر له قوت يومه دون أن يدفع إيجار محل أو ضرائب للدولة. على الجانب الأخر ، تبدو المحلات الكبرى وكأنما سعت هي الأخرى للحصول على نصيبها من الرصيف . فإلى جانب البضائع التي تعرضها على الرصيف ، يلجأ بعض أصحاب تلك المحلات إلى استخدام مكبرات الصوت للإعلان عن بضاعتهم التي تتنوع وتختلف باختلاف زبائنهم فيملأ الضجيج المكان. كما يلجئون أيضا إلى استخدام بعض الصبية لبيع منتجاتهم من الملابس الكاسدة بأسعار اقل على الأرصفة.. ويستخدم هؤلاء في العادة أجهزة تسجيل تعرض أسعار منتجاتهم بشكل متكرر ، ويتداولون فيما بينهم إشارات يستخدمونها في حال قدوم دوريات الشرطة ، لينزلقوا إلى إحد الأزقة المجاورة حفاظا على بضاعتهم إلى أن يزول "الخطر". جانب اقتصادي ولا تتوقف الآثار السلبية لانتهاك الرصيف في مصر عند الاختناقات المرورية وفقدان المشاة للامان ، وإنما تشمل أيضا جانبا اقتصاديا يتحدث عنه الدكتور حمدي عبد العظيم أستاذ الاقتصاد والعميد الأسبق لأكاديمية السادات للعلوم الإدارية ، مشيرا إلي أن الاقتصاد المصري يخسر سنويا قرابة 2 مليار جنيه جراء عدم خضوع تجارة الرصيف للضرائب ، ناهيك عن إهدار الطاقة من البنزين والسولار ، جراء الاختناقات المرورية للازدحام والفوضى التي يعيشها الشارع المصري المكدس بالمشاة جنبا إلى جنب مع السيارات والدراجات البخارية ، فتسير السيارات ببطء وقد تتوقف كثيرا تفاديا للاصطدام بأحد المارة وهو ما يقدر بنحو مليار جنيه سنويا ، ناهيك عن ملايين الجنيهات الأخرى التي يصعب حصرها جراء إهدار الوقت وتعطل مصالح الكثيرين نتيجة الزحام تتراوح من 7 - 10 مليون جنيه سنويا. الشوارع المقلوبة،، ومن جانبه يرى الدكتور سعد الدين العشماوي أستاذ تنظيم النقل بجامعه القاهرة ورئيس الجمعية العلمية العربية للنقل ، أن أزمة انتهاك الرصيف في مصر لا نظير لها في أي دولة في العالم ، وقد نتج عنها ظاهرة أخرى تتمثل في الشوارع المقلوبة والتي تعني سير المشاة في نهر الطريق معرضين أنفسهم لمخاطر الموت والإصابة بعدما زاحمهم الكثيرون في استعمال الرصيف لغير الغرض المعد له سلفا ، وهو سير المشاة ، نتج عنه أزمة مرورية خانقة تعيشها شوارع القاهرة نتيجة لعدم التخطيط العلمي السليم للنقل الجماعي بمختلف أنواعه - عاما وخاصا وذلك في نطاق منظومة نقل متكاملة تشمل مترو الأنفاق ، وهيئة النقل العام ، والشركات الخاصة للنقل الجماعي ، بالإضافة إلى أتوبيسات المصانع والمؤسسات والهيئات مرة ونصف حجم أسطول النقل العام حيث تستخدم كل وسيلة في مكانها المعين. إذ من المعلوم انه لكل وسيلة نقل مجال معين تعطي فيه مستوى خدمة أعلى وبتكلفة اقل ، وهو ما يسمح بسيولة الحركة فى الشارع وعدم تكدس السيارات وتخفيف العبء على الرصيف. الطوفان وتشير الدكتورة هدى زكريا أستاذة علم الاجتماع بجامعه الزقازيق ، إلى أن ظاهرة انتهاك رصيف المشاة هي جزء من حالة الفوضى التي يعيشها المجتمع المصري هذه الأيام ، وذيوع مبدأ أنا ومن بعدي الطوفان، فالكل يسعى للاستيلاء على ما تقع عليه يده ويستطيع فعله، والرصيف باعتباره ملكا للجميع يسهل لأي صاحب مصلحة عاطل يبحث عن شغل ، أو صاحب مقهى أو محل يسعى للتوسع ، أن يضم أجزاء من الرصيف لحوزته. ويساعده في ذلك عجز القانون عن توفير الحماية للرصيف وردع المخالفين ، فالقانون ينص على مصادرة الإشغالات غير المرخصة 50و جنيها غرامة فقط ، وهو مبلغ زهيد جدا لا يمثل مشكلة لأي مخالف كما أن حملات المصادرة لا تؤدي في النهاية إلا إلى امتلاء المخازن التابعة للمحافظة بكميات ضخمة من البضائع الرديئة التي لم يستطع أصحابها الاختباء بها بعيدا عن مطاردة الشرطة، وترى خبيرة علم الاجتماع ان الحل يكمن في تغليظ العقوبة أولا ، وتطبيق القانون على الجميع.. وقتها سيرتدع الكل وتعود للرصيف حرمته وللسائرين على الأقدام أمنهم...