ختم صديقى (المشهور بيننا نحن معشر أصدقائه وأحبته بتدينه وورعه الشديدين) حديثه الهاتفى الطويل معى أول من أمس، قائلا بصوت يقطر حزنا وأسى: والله يا فلان، أنا لم أعد خائفا فقط على مصر من هذه الجماعات التى تنسب نفسها للإسلام، بل أصبحت أخشى على الإسلام نفسه منها.. لقد صرت مرعوبا أن يتفاقم غزوهم لحياتنا ويستفحل خطرهم وينجحوا فى حشر عقول بسطاء الناس بأفكارهم ومسلكياتهم المغرقة فى الجلافة والجهالة وضيق الأفق، وأن يدخلوا فى روع هؤلاء البسطاء أنها المفهوم والتطبيق الحقيقيين لأحكام الدين الحنيف، وهو ما قد يجعل قطاعات وشرائح من المتعلمين وأصحاب العقول المستنيرة ينفرون من هذه الحالة الظلامية ويهجرون التدين رويدا رويدا وهم يظنون أن ذلك أقرب للتمدين والتقدم والتحرر والحداثة. قال صديقى الذى يقيم فى مدينة الإسكندرية هذا الكلام بعدما عدد على مسامعى نماذج من سلوكيات وتصرفات لا وصف مهذبا لها سوى أنها «عربدات» استعراضية غطت مظاهرها مؤخرا شوارع المدينة بعدما انخرط الناشطون بالجماعات آنفة الذكر فى صراعات ومنافسات بين بعضهم بعضا على تجاهل وجود دولة فى هذا البلد وخرق القوانين جهارا نهارا، ثم التضييق على خلق الله ومحاصرتهم بمناخ إرهابى هستيرى لا يكرس فحسب النموذج السطحى الشكلانى للتدين واختزاله فى طقوس فلكلورية، وإنما يهبط باسم الإسلام وسيرته الجليلة إلى مستوى غير مسبوق من الترخص والتدنى، إذ لم تعد هذه الجماعات تكتفى بكبيرة استخدام الدين لتحقيق مكاسب سياسية وترويج وتحصين مواقف فى السياسة متخلفة أو انتهازية، لكنها تمادت فى الفجاجة لدرجة استباحت شعائر التعبد لله فى هذا الشهر الفضيل وتجرأت عليها وجردتها بخشونة وقسوة من روحانيتها الشفيفة وسموها المتعالى على اللغو والضجيج وحولتها إلى ما يشبه فاعليات ومواد الدعاية الرخيصة التى يوسل بها التجار «مهرجانات التسوق»، حيث لا مكان وسط هدير الجلبة والشوشرة والتهافت على خطف الزبائن، لأى أخلاق أو ذوق، فما بالك بالروحانيات والرقى الإنسانى. أسهب صديقى فى وصف تفاصيل الصورة المروعة المؤذية التى تطبع ملامح مدينة الإسكندرية هذه الأيام، وكيف أن جماعات الظلام والجاهلية الجديدة أممت وصادرت بالغصب أغلب بيوت الله من مساجد وجوامع وحاصرتها بلافتات دعائية قبيحة المنظر والمخبر، فهذه لافتات ويافطات تروج للجماعة السلفية الفلانية (قد تكون التى صنعتها واستخدمتها مباحث أمن الدولة المنحلة لإشاعة الفتن وتنفيذ أحط المهام) وتعلن أن المسجد هذا الذى تضرب من حوله الحصار، صار من غنائمها وممتلكاتها وهى التى تحتكر تنظيم فاعليات (لا شعائر) صلاوات التراويح والتهجد المقامة فيه (!!) وبالمقابل هناك لافتات ويفط أخرى لا تقل غرابة وقبحا تروج دعائيا ل«شعبة كذا» فى جماعة الإخوان، وبالمرة تدعو جموع المؤمنين المصلين (بعد تحويلهم لزبائن) إلى تفضيل أداء الصلوات فى المسجد الفلانى الذى أمسى من أعمال الشعبة ويخضع لولايتها وقوانينها وكامل سلطة سلطانها أو أميرها!!! لكن مع اقتراب عيد الفطر المبارك لم تعد ساحة «مهرجان التسوق» والتجارة باسم الدين الحنيف قاصرة أو محدودة بصحون وباحات الجوامع والمساجد فحسب، هكذا شرح صديقى السكندرى، بل امتدت وتمددت إلى شوارع رئيسية وميادين عامة عديدة أحيطت وتحزمت وتزنرت تماما بمئات اليفط الدعائية من النوع المذكور نفسه، فهذا الشارع قامت «جماعة كذا» بوضع يديها الكريمتين عليه وجهزته بما يلزم (من أين كل هذا المال؟!) لاستقبال أتباعها أو «زبائنها» الذين اختاروا أداء صلاة العيد فى كنفها وتحت رعايتها، أما الميدان الفلانى فهو داخل ضمن حدود «التراب الوطنى» للجماعة المنافسة وفيه ستقام صلاة العيد التى تخصها هى حصرا.. وهكذا!! قبل أن ينهى صديقى المسلم الحزين مكالمته معى، سألنى بأسى: ألست أنت الذى كتب من أسابيع واصفا الحالة الراهنة للدولة المصرية بأنها «الدولة المتفرجة» على العربدة وانتهاك القوانين؟ - نعم... - طيب، كل سنة وأنا وأنت ودولتنا المتفرجة بألف خير..