فى مرحلة قريبة من حياتى استهوانى التأمل والبحث فى أنماط وأنواع وأجناس الديكتاتوريات والديكتاتوريين، وربما يذكر بعض القراء الكرام الذين يتابعون العبد لله أننى كتبت مرات عدة عن الفروق التى يفترض أن تميز بين الديكتاتور و«الصايع»، وكيف أن بعضهم يعطى، بتصرفاته وسلوكه، انطباعا قويا بأن هذه الفروق ممحوّة ولا وجود لها لأن الديكتاتور يبدو من منظره كأنه مجلوب للتو من «تخشيبة» المشبوهين وأصحاب السوابق فى سجن الخليفة (اسمه الرسمى «سجن الترحيل») إذ ترى جنابه يجمع، إلى القسوة والجلافة والدموية، ميلا شبه غريزى إلى اللصوصية والنشل و«تقليب» الوطن والمواطن. قلت وكتبت فى أكثر من مناسبة عن الظلم البين الذى يتعرض له أنواع من الديكتاتوريين عندما نضع كل من ينطبق عليه وصف الديكتاتور فى سلة واحدة، فالديكتاتوريات على بشاعتها جميعا ولا إنسانيتها، مختلفة ومتفاوتة الحظوظ من الإنجاز، فلبعضها فعلا إنجازات مادية ملموسة يتركها خلفه بعدما يذهب ويندحر، وبالمقابل هناك ديكتاتوريات أخرى تورث مجتمعاتها بعد أن تغور فى ستين داهية دمارا وانحطاطا شاملين بحيث لا يعود المرء يعرف إن كان هذا البلد الخارج من أسر الديكتاتورية، وطنا أم خرابة؟! وانظر حولك من فضلك. إذن أكرر، أن الديكتاتوريات والديكتاتوريين أجناس وأنواع، فمثلا قد تجد ديكتاتورا أنيقا أكمل تعليمه يمارس استبداده بقدر ملحوظ من الشياكة وبذرائع أيديولوجية لا تخلو من فخامة، وتراه فى سلوكه الشخصى حريصا دائما على ارتداء سيماء التعالى والرصانة، بعكس زميل له فى نادى الديكتاتوريين يصدمك بفظاظته وجهله وعشوائيته وأنه يتصرف، هو والطغمة الفاسدة المتحلقة حوله، كعصابات الشوارع وحرامية الغسيل. ومن أنماط الديكتاتوريات التى لم تحظ باهتمام كاف من الدارسين ذلك النوع المسخرة الذى كان نظام المدحور العقيد معمر القذافى وأولاده الصيّع، نموذجا فريدا تتجسد فيه كل عناصر وسمات هذا النمط.. صحيح أن العقيد الهارب الآن من وجه العدالة لم يكن الوحيد الذى جمع كل موبقات وبشاعات الحكم الديكتاتورى ووضعها فى قالب مفرط فى الهزل والكوميديا السوداء، وإنما شاركه فى هذه السمة آخرون (أغلبهم أفارقة) من شاكلة فيدل بوكاسا وعايدى أمين وسواهما، لكن القذافى تفرد وبزهم جميعا بطول فترة حكمه (42 سنة) وأن تحت يديه إمكانيات وقوة مالية هائلة حرم الشعب الليبى الشقيق منها واختلسها لنفسه ومقاطيع عائلته وأتباعه واستخدمها (عبر جيوش من النصابين والأفاقين) فى إشاعة وترويج أيديولوجية الحكم الوحيدة فى التاريخ التى أقيم صرحها كله على قاعدة «خلط الهبل بالشيطنة». وأختم بواحدة من ذكرياتى العديدة مع فيض المهازل القذافية، ففى نهاية عام 2003 فاجأنا الأخ العقيد، هذا الذى لم يخرس ولم يكف أبدا حتى وهو هارب الآن من شعبه فى جحور تسكنها الجرذان، عن ادعاء العداء للاستعمار والإمبريالية، بأنه لما رأى (هنا تكمن الشيطنة) مشهد قيام الأمريكيين باعتقال صدام حسين بعدما انتشلوه من الحفرة الشهيرة، خاف وتخبطت ركبه فى بعضها وقرر أن يشترى عفو ورضا واشنطن بأى ثمن فخرج على الملأ واعترف بأنه أنفق مئات المليارات على شراء أسلحة دمار شامل لكنه سوف يتطوع بها للأمريكيين الذين طالبهم بإرسال فرق تفتيش دولية لكى تعاين هذه الأسلحة وتتلفها.. وقتها كتبت فى صحيفة «العربى» أن فرق التفتيش الدولية هذه ستواجه مشكلتين اثنتين على الأقل، أولاهما صعوبة معرفة عنوان ليبيا الشقيقة بعدما سماها العقيد المخبول «الجماهيرية العربية الشعبية الاشتراكية العظمى»، ومن ثم اقترحت عليه أن يضيف إلى العنوان عبارة «بجوار السلوم»! أما المشكلة الثانية فهى أن فرق التفتيش تلك بعدما تنجح فى الوصول إلى ليبيا، ستبحث وتنقب فى طول البلاد وعرضها عن أسلحة الدمار الشامل المزعومة، غير أنها ستجد فعلا «دمارا شاملا» من دون أن تعثر على أى «أسلحة»!