عندما ننتكس وتتسلل إلى أرواحنا بوادر الإحباط، نجد أنفسنا نهتف بقوة وبعزيمة من حديد: (قوم يا مصرى مصر دايما بتناديك خد بناصرى ناصرى دين واجب عليك يوم ما سعدى راح هدر قدام عينيك عد لمجدك اللى ضيعته بإيديك). هذه كلمات الشاعر والمبدع والزجّال والمسرحى بديع خيرى، هذا الفنان الذى ولد فى أكثر أحياء القاهرة شعبية، وهو حى «المغربلين»، وتشبع بالروح المصرية الخالصة، واستقى تقاليدها العريقة، وظهرت هذه الروح وتلك التقاليد فى كفاحه الوطنى قبل ثورة 1919، وكانت مشاركته فى النضال الوطنى المسلح ضد الإنجليز، وكان مصطلح الكفاح المسلح، مصطلحا مشروعا وسائدا ووطنيا، ولم تكن مشاركة الشاب بديع خيرى مشاركة بالأشعار والكلمات والأزجال، بل كانت مشاركة فاعلة وحيوية، للدرجة التى أدت به إلى القبض عليه فى أيام شبابه الأولى. ولا يرد اسم بديع خيرى إلى ذاكرتنا دون أن يُذكر اسم بيرم التونسى، وهذه الثنائيات ظلت مهيمنة فى مصر على مدى القرن العشرين كله، ولا أعرف لماذا، فنحن دوما نتذكر أحمد شوقى ومعه حافظ إبراهيم، ونتذكر إبراهيم ناجى ومعه على محمود طه، ونتذكر صلاح عبد الصبور ومعه أحمد عبد المعطى حجازى، وكذلك عبد الرحمن الأبنودى وفى معيته سيد حجاب، وأيضا صلاح جاهين ومعه فؤاد حداد.. إلخ إلخ. ودوما ما يطغى اسم على الآخر، وكذلك تكون الأسباب أحيانا غامضة، فهناك حافظ، وشوقى، وصلاح جاهين، وفؤاد حداد، ونلاحظ أن اسم أحمد شوقى أصبح كبيرا وسائدا لدرجة النمط والنموذج، ومع الأيام يتوارى اسم حافظ إبراهيم، وكذلك اسم صلاح جاهين أصبح كبيرا للدرجة التى أخفت أى أسماء فى جيله كتبت بالعامية، ما عدا اسم فؤاد حداد، الذى لا يشغل المساحة ذاتها رغم أن جاهين يعترف دوما بأستاذية فؤاد حداد له. وهكذا حدثت هذه الثنائية بين بديع خيرى وبيرم التونسى. هذه الثنائية التى ظلمت بديع خيرى بقسوة، وجعلت اسمه يتوارى رويدا رويدا فى الذاكرة، رغم أننا ننشد أغانيه ونترنم بها دائما، وتكاد تكون الأجيال الجديدة تجهل بديع خيرى، على عكس إدراكها لأشعار بيرم التونسى، وحياته الدرامية، وأغانيه الكلثومية الشهيرة، ولكن للأسف لا نجد ذلك يحدث مع بديع خيرى. وعندما احتفل به المجلس الأعلى للثقافة بمناسبة مرور ثلاثين عاما على رحيله، حدثت واقعة سخيفة، ولا أملّ من ذكرها، لأنها واقعة فادحة، وهى أن أحد الباحثين والإعلاميين قد سطا على مذكرات خيرى، ونشرها بمناسبة هذه الاحتفالية، وكانت هذه المذكرات قد أملاها الفنان والشاعر على الصحفى والمحامى محمد رفعت، وكتب لها مقدمة قصيرة تفى بأنه لم يقدم على كتابة مذكراته أبدا، ولم يضع نفسه موضع المساءلة مطلقا، كى لا يُغضب أحدًا، ولا يزعج صديقًا، عندما يقول ما لا يرضى الآخرين، ولكنه هنا، وبكل رضا أراد أن يعقد جلسات الاعتراف مع محمد رفعت دون قيد أو شرط، وهذا لمحبته الخالصة لهذا الشخص، ونشرت المذكرات على ست عشرة حلقة فى مجلة «الكواكب» عام 1963، وبعد ذلك جمعها الكاتب الصحفى محمد رفعت بين دفتى كتاب، ونشرها فى بيروت، ولكنها ظهرت فى ما بعد ذلك، وفى أهم مؤسسة ثقافية مصرية، باسم آخر، هو اسم إبراهيم حلمى، ورغم تنويهنا عن هذه الواقعة قبل ذلك، والمطالبة بإعادة نشر المذكرات باسم محققها الأصلى، فإنه لا حياة لمن تنادى، والشخص الذى قام بالسطو كامن لا يرد، ولا يصد، ولا يستيقظ له ضمير حتى الآن، رغم أنه إعلامى، وله أبحاث وكتب منشورة عن «كسوة الكعبة الشريفة»، وغيرها من أبحاث. وأعتقد أن الظلم لم يلحق بخيرى فحسب، بل لحق كذلك بالذين اجتهدوا فى التعريف به والانتصار له، ورغم ارتباط اسمه بعظماء الفن فى مصر، مثل الشيخ سيد درويش، إذ هو الذى كتب أوبريت «الشجرة الطيبة»، وقام بتلحين أغانيه سيد درويش، وأحدث الأوبريت آنذاك صدى مدوّيا، فإننا نتذكر سيد درويش، ولكن اسم خيرى يتوارى ويكاد يختفى، وكذلك فهو الذى كتب معظم مسرحيات نجيب الريحانى، وارتبط الاسمان على مدى ثلاثة عقود كاملة، منذ أن بدآ معا فى العشرينيات، حتى رحيل الريحانى عام 1949، إلا أن طغيان اسم الريحانى غم اسم بديع خيرى بقوة. كما أن بديع خيرى كتب حوارات أجمل أفلام الأربعينيات مثل «العزيمة»، و«انتصار الشباب» و«لهاليبو» و«ورد الغرام»، و«حسن ومرقص» و«غزل البنات»، إلا أننا نشاهد هذه الأفلام حتى الآن، ونستمتع بها، ونقرأ عن أن بعضها كان فاتحة عهود جديدة فى السينما المصرية، خصوصا «انتصار الشباب» و«العزيمة»، ونردد الأغانى الرائعة التى جاءت بها، مثل الأغنية التى شدا بها عزيز عثمان وهى «بطلوا ده، واسمعوا ده، الغراب يا وقعه سوده، جوزوه أحلى يمامه»، إلا أن اسم بديع خيرى لا يدرج ضمن احتفالاتنا الدائمة بمثل هذه الأفلام. وإذا كان دور بديع خيرى لا يقتصر على المسرح الغنائى، ولا على المسرح الريحانى والفكاهى، ولا على الأوبريت فحسب، بل أعتقد أن أثر بديع خيرى الحقيقى، كان أكثر بكثير من أثر بيرم التونسى، وهذا ليس تقليلا من شأن تجربة بيرم التونسى العظيم، لكن تجربة التونسى نقرأها ونستمتع بها، ونحكى عنها، ونعتبرها مثلا ونموذجا فى حياتنا، ولكننا لو أخضعنا تجربة بديع خيرى وأثرها على الأجيال التالية له، سنجد أن حظه كبير جدا فى ذلك، وأعتقد أنه يفوق أثر بيرم التونسى، وأنا لا أغامر بهذا الرأى، ولدى أدلة كثيرة على ذلك، ليس مجالها هذه السطور القليلة، وربما نعود إلى ذلك فى مجال. ومن أجل هذا فقد دعت الإذاعة المصرية الشاعر والزجال والمسرحى بديع خيرى، ليتحدث عن تجربته الطويلة والعريضة والعميقة فنيا، وذلك فى 8 نوفمبر عام 1961 ليتحدث عن هذا المشوار الطويل والعظيم فى آن واحد.