سُئل الأديب الكبير نجيب محفوظ فى حوار مع جريدة «الأهرام» عام 1959 عن أهم مشكلات السينما، فأجاب «أزمة ثقافة.. كل اللى بيشتغلوا عندنا فى السينما مجتهدين، واخدينها بالدراع! المخرج مثلا يجب أن لا تقلّ ثقافته العامة عن الأديب الممتاز، وإلا فلن يتاح للفيلم المصرى الارتفاع الموضوعى الحقيقى. مطلوب عقل ناضج يأخذ قصة حب بسيطة يعمل منها عملا رائعا». كان محفوظ أول أديب عربى يكتب للسينما عام 1954 فى فيلم «مغامرات عنتر وعبلة»، وظل وجوده على شاشة السينما كسيناريست حتى ظهرت أولى رواياته فى فيلم «بداية ونهاية» عام 1960، والغريب أن محفوظ لم يكتب سيناريو أى فيلم مأخوذ عن رواية من رواياته، بل إنه كان يتحفّظ على إبداء رأيه بالأفلام المأخوذة عن رواياته. هذه الأيام تمر الذكرى السادسة والعشرون لحصوله على جائزة «نوبل» كأول عربى يحصل على هذه الجائزة فى الأدب، وقت حصوله على «نوبل» عام 1988 كان رصيده 59 فيلما، سواء فى شكل قصة أو رواية له، أو أفلام كتب لها القصة أو المعالجة السينمائية أو السيناريو. أن دخوله إلى عالم السينما كان على يد صلاح أبو سيف الذى يقول عن محفوظ «فى أدبه تعبير قوى بالصور وبناء درامى، وهذا هو الأساس فى السيناريو.. البناء والتعبير بالصور». يروى المخرج الكبير صلاح أبو سيف بداية دخول محفوظ إلى عالم السينما «بدأنا نفكِّر معا فى (مغامرات عنتر وعبلة) عام 1945، وكتبناه سنة 46، وتم تصويره 47 وعُرض 48.. كانت قصة عبد العزيز سلام، ولم يكن فيها جديد عن الفيلم الذى سبق إخراجه عن نفس الموضوع. فكَّرت فى أن يكون الجديد أن تكون الحروب بين العرب وعدو خارجى، وليس بين العرب والعرب. وافقنى نجيب محفوظ، وقررنا أن تكون الحروب فى الفيلم بين العرب والرومان، كما صوّرنا فى الفيلم شخصية يهودى قام بتمثيلها زكى طليمات، وجعلناه يلعب على الطرفين: العرب والرومان». تم تصوير الفيلم فى أثناء احتدام المشكلة الفلسطينية، وبدأ المونتاج بعد تقسيم فلسطين فى نوفمبر 47، وإن كان قد عُرض فى ديسمبر 48 بعد إنشاء إسرائيل. والغريب أن الحوار الذى كتبته مع نجيب محفوظ وردت فيه بعض العبارات والشعارات التى رفعتها ثورة 23 يوليو بعدها مثل «نسالم من يسالمنا.. ونعادى مَن يعادينا»، بل والأغرب أن شخصية اليهودى فى الفيلم كانت له عصابة على عينه تماما مثل موشى ديان، بعد ذلك، ولم يكن ديان قد أصيب بعدُ ووضع هذه العصابة». بلغ نصيب محفوظ فى قائمة أفضل مئة فيلم فى تاريخ السينما المصرية 17 فيلما، ورغم هذا تعرضت أعماله لموجة انتقادات شديدة وحروب مع الرقابة واتهامات بأنها تسىء إلى سمعة مصر! فسيناريو فيلم «الناصر صلاح الدين» تعرض لمشكلات كبيرة، حيث ادّعت الرقابة أن السيناريو سطحى وضعيف ويسىء إلى الشخصية، وتم تعديله أكثر من مرة، أما فيلم «اللص والكلاب» فقد كان معرضا للرفض لأن رقابة السينما رفضت أكثر من مرة أن تسمح بتقديم حياة السفاح فى فيلم! وقبلها رفضت الرقابة أن تصرح بقصة القاهرة الجديدة -الذى تحول إلى «القاهرة 30»-، التى تدور حول موظف تعلم الانحناء لرئيسه ومجاراته فى تصرفاته لكى ينال ترقية، حيث رفض محمد على ناصف مدير الرقابة وقتها أن يصرح بتقديم القصة فى السينما، لأن هذا الموظف مثل سيئ للمواطن فى ظل مجتمعنا الجديد! فيلم «قصر الشوق» اعترض عليه الرقيب، ولم يصرح بعرضه، ثم بعدها منعته لجنة تصدير الأفلام إلى الخارج، لأنه يسىء إلى سمعة البلد إساءة بالغة، بل إن اللجنة التى تشكلت لمشاهدته مرة أخرى انتهت إلى أنه يؤدى إلى التشهير بتاريخنا القومى! «السراب» اعترض محفوظ نفسه على تحويله إلى فيلم، وكان وقتها رئيس مؤسسة السينما، لأنها مشكلة فردية ولا تخدم المجتمع الجديد، ثم بعدها رفضت لجنة المصنفات الفنية عرضه، ثم أجازته للكبار فقط بعد حذف عشرة مشاهد منه. بل إن فيلما استعراضيا مثل «أميرة حبى أنا» طالبت عدة دعاوى بوقف عرضه، بدعوى أن التحريف أصاب ألحان سيد درويش التى قدمت فى الفيلم! الأمر نفسه طال أفلاما كثيرة، بدءا من «ثرثرة فوف النيل» وصولا إلى «الحب فوق هضبة الهرم»، الذى رفضته الرقابة على المصنفات الفنية!. فى حوار لنجيب محفوظ عام 1972، وكانت وقتها هناك أزمة فى فيلمى «ثرثرة فوق النيل» و«ميرامار»، الذى شاهده الرئيس السادات وأجازه بنفسه، قال محفوظ بغضب «بصراحة أصبحت رجلا مشبوها»، موضحا أنه لا يكتب بالرموز والمعادلات، لأن الأمور واضحة، لكن كل إنسان يفسر كتاباته على هواه. رحل محفوظ الذى اتهموا أعماله بالإساءة إلى سمعة مصر، وظلت أعماله الخالدة التى كلما شاهدتها تأكدت أن أهمية نجيب محفوظ فى السينما لا تقل أبدا عن أهميته فى عالم الأدب.