ولأن الحب يقين يقبل الشك، فإن بخيت منديل كان يعرف وهو يقتل طلبًا لثأرها أنه قد يكون خاطئا ويطلب الصفح، وهو نفس الشك الذى نقله إليها عبر حبه لها وتعلقه بها، فى أنها يمكن أن تكون قد أخطأت التقدير وأن بين «هؤلاء الوحوش الذين لا يمكن أن يعاملوا بالكراهية والتوحش الذى هم جديرون به»، توجد نماذج محيرة مثل بخيت منديل، لتصبح الحيرة هى الدواء أحيانا ليقين قاتل. ستجد فى الرواية التى تدور أحداثها قبل نحو قرن ونصف القرن نفس الحجج التى يسوقها أصحاب هذا اليقين الكاذب فى كل زمان، ونفس الخراب الذى تحمله خطاهم لكل أرض ظنوا أن دولتهم يمكن أن تقوم فيها على تل من الجماجم! لا يمكنك بعد أن تنتهى من الرواية أن تبعد عن ذهنك صورة أصحاب الرايات السوداء الذين ابتلينا بهم، وهم يذبحون تقربا إلى الله كما يظنون، وستجد فى مشاهد اجتياح أم درمان وسبى ثيودرا ورفيقاتها ومحاولات انتهاك جسدها ثم الانتقام الوحشى من هذا الجسد، ما يذكرك بحكايات اجتياح «داعش» مناطق الأزيدية وحكايات السبايا التى كنت تظن أنها لا توجد إلا فى خيال الروائيين أو كتب التاريخ، فوجدتها تتكرر على نحو أبشع، وربما تساعدك أن تفهم سر هذا الهوس بأجساد النساء الذى يجمع بينهم فى كل زمان ومكان. وستجد فى منطق «ود الشواك» والحسن الجريفاوى ما يذكرك بخطبة صبى ينحر ضحاياه أمام الكاميرا بابتسامة شخص منَوم تنويما مغناطيسيا، وبالطبع ستقفز إلى ذهنك عشرات الصور لأمثال «عبد القيوم» و«يونس ود جابر» والذين يتاجرون فى هذا اليقين ليحولوه إلى مكاسب يجنونها، ولا يتورعون عن القبض من الفريقين على اعتبار أن أحد الفريقين قد يكون على صواب، فما نأخذه من أمواله حلال والآخر كافر فما نأخذه من أمواله غنيمة! لكنك تتساءل هل تراودهم هواجس الحسن الجريفاوى وبخيت منديل، هل يفكرون لحظة فى أنه ربما جانبهم الصواب وأن الله سيسألهم عن هذه الدماء؟ أم أن الأمر لا يعدو خيالا روائيا ومحض تصور عن دراويش افتقدوا نعمة الخيال. فهل كان العالم سيصبح أفضل لو أنهم خففوا أشواقهم ليقيم كل منهم دولة الله فى قلبه؟ ستتنهد ربما مثلى وأنت تقول ليت الدراويش كانوا أقل شوقا! ———————- «فى يوم ما، لم يحن أوانه بعد، سيجلس الناجون منا ليسألوا أنفسهم كيف نجوا من كل هذا الإيمان، ويتعجبون أنهم ما هلكوا تحت ركام اليقين الذى انهال علينا». حمور زيادة شوق الدراويش