مع الإقرار بأن الأزمات والصراعات الحادة التى تهدد وجود أكثر من دولة عربية حاليا هى نتيجة أصيلة لفشل بناء دولة وطنية ديمقراطية جامعة فى العالم العربى، فإنه لا يمكن نفى أثر التدخلات الإقليمية والدولية فى مفاقمة هذه الصراعات إلى الحد والحدة اللتين نشهدهما حاليا. ولعل فى تصريحات وزير الخارجية الإيرانى محمد جواد ظريف، عقب لقائه فى نيويورك مع نظيره السعودى سعود الفيصل، خلال حديثه عن «فصل جديد» فى العلاقات بين البلدين، ما يتضمن اعترافا ضمنيا بأثر الصراع بين الجارين القويين فى مفاقمة عديد من هذه الصراعات حتى باتت تهدد السلم والأمن الإقليميين، بل والدوليين. قال ظريف إنه ونظيره السعودى «يعتقدان» أن هذا اللقاء سيكون الصفحة الأولى فى فصل جديد لعلاقات بلديهما، مضيفا أنهما يأملان كذلك فى أن يؤسس هذا الفصل الجديد سلمًا وأمنًا إقليميين ودوليين، ويضمن مصالح «الشعوب المسلمة». ويمكن فهم هذا التصريح على محمل أن فصلا جديدًا من تعاون البلدين قد يعزز فرص تحقيق السلم والأمن من خلال توظيف إمكانياتهما لحل الصراعات المهددة لهما، من دون أن يعنى ذلك بالضرورة إقرارًا بأن ما سبق فى علاقات البلدين أسهم مباشرة فى مفاقمة تلك الصراعات. إلا أنه فى ظل ما هو معلوم، ومُعلن، ومتضمن فى الاتهامات التى كثيرًا ما كالَها كلا البلدين إلى الآخر، من دور كليهما فى دعم الأطراف المتناحرة والأكثر تطرفًا وطائفية فى بؤر الصراع الإقليمية، يؤكد أن المعنى الذى ذهبنا إليه فى مفتتح هذا المقال هو الأوقع، وهو المقَرُّ به ضمنًا فى تصريحات جواد ظريف. الصراع على مناطق النفوذ الإقليمى من خلال خوض الحروب بالوكالة فى عدد من دول المنطقة، هو بالتالى الفصل الذى يسعى كلا البلدين لتجاوزه إلى فصل تعاون جديد، لكن هل يمكن للبلدين بالفعل تحقيق هذا الانتقال؟ وهل يمكن لهذا الفصل الجديد أن يحل صراعات المنطقة بالفعل. يبدو من تحليل سياق البحث عن هذا «الفصل الجديد» أن المكون الأبرز فيه هو توجه الولاياتالمتحدة لخفض، إن لم يكن إنهاء، اعتمادها على نفط المنطقة، ومن ثم خفض انخراطها فيها إلى أدنى حد ممكن. وعلى الأرجح، فإن الحملة التى تشنها الولاياتالمتحدة حاليا فى العراق وسوريا ليست إلا إحدى حلقات ترتيب الأوضاع الإقليمية وتأسيس بيئة إقليمية مفتتة وضعيفة، بما يضمن أمن إسرائيل ويتيح خروجا أمريكيا آمنا من الشرق الأوسط. تلك البيئة المفتتة والضعيفة تحمل مثلما بدا حاليا احتمالات واسعة لاستعار الصراع الإقليمى بين السعودية وإيران، لكن تلك المرة من دون ضمانات الكبح الأمريكية، والأخطر من دون قدرة حقيقية لدى الطرفين على منع امتداد الحرائق الطائفية والإثنية التى باتت تحت قدميهما إلى داخل حدودهما. محاولة تفادى انفجار إقليمى إثنى غير مضمون العواقب قد يطال كلا الدولتين، عن قصد أو عن غير قصد، هى إذن الدافع الرئيسى الأول للبحث عن فصل جديد فى العلاقات السعودية - الإيرانية. ويلزم هنا بيان أنه، رغم ما قد يبدو من استقرار نسبى للأوضاع السياسية فى كلا البلدين مقارنة باضطرابات المنطقة، فإن تلك الأوضاع ليست على ما تبدو عليه من حصانة. فكلا البلدين يعانى مشكلات حقيقية مع قطاعات مهمة من تركيبته الإثنية، خصوصًا فى إيران. ويحول دون حسم هذه المشكلات الطبيعة المذهبية التى تمثل ركنا أساسيا من أركان شرعية نظاميهما السياسيين. وليس متوقعًا فى الأمد القريب احتمال حدوث انفتاح سياسى جوهرى فى كلا النظامين يتيح استيعاب هذه الأقليات. فضلا عن ذلك فإن أحد أبرز عوامل الحصانة الراهنة المتمثل فى تماسك الدائرة الضيقة من النخبة الحاكمة سيصبح فى الأمد المنظور موضع شك كبير فى ظل اتساع دائرة الخلافة السياسية فى السعودية مع رحيل أبناء الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود، أو الصراع المتزايد بين المعتدلين والمحافظين فى إيران على خلفية ازدياد حدة الإحباط السياسى والاقتصادى لدى قطاعات واسعة من الإيرانيين. دافع ثانٍ ربما يبدو أكثر إيجابية، يتمثل فى ما يمكن أن يتيحه تأسيس علاقات تعاون من فرص نمو أمام الطرفين. فإيران التى أنهك اقتصادها سنوات طوال من العقوبات الدولية الحادة تحتاج إلى دفعة استثمارية قوية مع بدء رفع هذه العقوبات إثر انطلاق مفاوضات تسوية الملف النووى الإيرانى، وليس أفضل ولا أوفر من رؤوس الأموال الخليجية التى تبحث بدورها عن فضاءات استثمارية بديلة تقيها شر تقلبات السياسة الأمريكية. فقد بدا بوضوح خلال سنوات الأزمة المالية العالمية أن الإدارات الأمريكية على تعاقبها حاولت تحييد أى تأثير قد يكون لرؤوس الأموال الخليجية والصينية بخاصة على عملية صنع القرار فى الولاياتالمتحدة، ما حدا إلى تقييد مجالات توظيف رؤوس الأموال تلك فى قطاعات اقتصادية أمريكية استراتيجية، كان أبرزَها قطاعا النفط والموانى. فضلا عن ذلك، فإن خبرة مصادرة الأموال الأجنبية باتت تقلق كثيرًا من دول الشرق الأوسط التى قد تنقلب علاقتها بالولاياتالمتحدة سريعا فى ظل التوجهات الأمريكية الجديدة. بعبارة أخرى يبدو أن محاولة تأسيس علاقة اعتماد اقتصادى متبادل كتلك القائمة بين دبى وإيران، قد تكون مدخلا متصورًا لضبط العلاقات بين السعودية ودول الخليج عامة من جهة، وإيران من جهة أخرى. لكن هل يمكن توقع نجاح هذه العوامل الدافعة فى تأسيس فصل جديد من التعاون بين الطرفين، فضلا عن تأسيس فضاء للسلم والأمن الإقليمى؟ لا تبدو الإجابة فى الواقع واعدة بقدر ما قد توحى العوامل المشار إليها آنفا. وهذا ما سنحاول تفصيله فى مقال الأسبوع المقبل.