أعادنى اختيار مهرجان الإسكندرية فى دورته الأخيرة لفيلم «سوّاق الأوتوبيس»، كأفضل فيلم مصرى فى 30 عاما، إلى عمل عظيم أحببته.. إنه الفيلم الذى بحثت عنه فى دور العرض حتى قبل أن أبحث عن مكان الكلية التى سأدرس بها، كنتُ قد شاهدت مخرجه عاطف الطيب فى حوار تليفزيونى مع سلمى الشماع، وقرأت عن الفيلم مقالا نقديا لا يُنسى للراحل سامى السلامونى. لم أجد الفيلم فى دور العرض عندما جئت إلى العاصمة لدخول الجامعة، لكننى شاهدته بعد فترة قصيرة فى التليفزيون.. «سواق الأوتوبيس» هو أيقونة الواقعية الجديدة، لم يكن يفرق معى ترتيبه فى الاستفتاءات، لأنه ظلّ دوما بالنسبة إلىَّ فيلما كبيرا وخطيرا. الفيلم أولا هجائية عنيفة، هى الأنضج والأذكى لعصر الانفتاح، جيل الحرب يردّ الصفعة ويفضح اللصوص، ليست الحكاية كما قد تظن عن مصلحة «الضرائب» التى حجزت على ورشة الأب، لكنها عن «ضريبة الدم» التى دفعها جيل ابنه حسن (نور الشريف)، بينما حصد الثمار لصوص الداخل من أمثال عونى (حسن حسنى فى أحد أفضل أدواره) وشركاه. الشاطر حسن كسب معركة الجبهة مع رفاقه، لكنه خسر معركة الداخل، ابتعد عن والده فافترسته الحيتان، صرخة النهاية هى صرخة جيل بأكمله تم تهميشه، فقنع إما بالسفر وإما بالوظيفة البسيطة. يكتسب موت الأب دلالة تراجيدية هائلة، ولذلك يلغى عاطف الطيب شريط الصوت تماما فى مشهد الوفاة، يكتفى بوجوه مشوّهة باستخدام عدسة واسعة، يتجاوز الميلودراما ليترك من خلال الصمت فرصة للتأمل واليقظة، يصنع مسافة بينك وبين المشهد: هذا ما حدث عندما انتشر الجراد البشرى يبيع ويشترى ويكرّس قيمه الفاسدة، الورشة نفسها هى الوطن الذى كان، هى كل القيم النبيلة المفقودة، موت الأب هو الرمز الأشهر عند جيل الخمسينيات والستينيات كله، حتى علاقتهم بعبد الناصر كانت علاقة أبوية، مما يجعل فيلم «سواق الأوتوبيس» عظيما.. حيث إن الورشة أصبحت وطنا، وحسن عاد جنديا من جديد، والأب صار جدارًا يهدمه اللصوص، والحب تحوّل إلى صفقة، والموت صار بعثا، أصبحنا أمام فيلم يُذكِّرنا بقوة بأفلام الواقعية الإيطالية: بساطة الحكاية، وعُمق مضمونها ودلالاتها. هناك ثانيا التجسيد البصرى لهذه المأساة: كاميرا الكبير سعيد شيمى المهتزة والمحمولة لا تنقل فقط نبض الحياة، لكنها تعبّر عن عالم مهتز على وشك السقوط، الموتوسيكل وهو يسير فوق الرصيف، وتلك الجِمَال التى تَعبُر إشارة المرور وسط السيارات، ليست سوى الترجمة البصرية لعالم فوضوى سينتهى بهدم عمود الخيمة، الكادر الضبابى ليس فقط تعبيرا عن دموع حسن وهو يتذكّر طفولته، لكنه ترجمة لحياة ضبابية اختلّت فيها القيم والمفاهيم، لقاء شِلة «القروانة» تحت سفح الهرم هو أعظم مرثية لجيل منتصر/ مهزوم. لقطات كثيرة لا تنسى، زاوية الكاميرا المنخفضة والأب يتقدّم نحوها عملاقا كتمثال شامخ، وهو يسمع تاجر مخدرات عجوز يطلب ابنته للزواج، عزيزة حلمى/ الأم كوجه مضىء على خلفية سوداء، كأنها ملاك الأسرة وسط الظلام الدامس، زاوية الكاميرا المنخفضة فى نهاية الأوتوبيس الفارغ، فى المقدمة حسن يعرف لأول مرة من أخته بأزمة والده، يضرب فرملة، فيهتزّ الكادر كله، لم يعد الأوتوبيس هنا وسيلة مواصلات، حوّله الكادر وزاوية التصوير وفراغ المقاعد والفرملة إلى نفق تعرض لهزة أرضية، أغنية عبد الحليم «يا قلبى خبى» فى الفيلم التى تصلح عنوانا على مأساة حسن وجيله، ثم مشهد النهاية الذى أعتبره من أقوى فينالات الأفلام المصرية. قال لى المخرج محمد خان، المشارك فى القصة، والذى كان سيخرج الفيلم، لولا انشغاله بفيلم «موعد على العشاء»، إن النهاية التى كتبها كانت أيضا تجسّد انفجار حسن، ينظر إلى التاكسى، يسكب عليه البنزين، ويلقى عليه عودا من الكبريت المشتعل، الحقيقة أن النهاية التى ظهرت أقوى وأفضل، لاحظ معى ما يلى: مع نهاية مشهد وفاة الأب الصامت والمشوّه، تقتحم شريط الصوت من المشهد القادم صرخة امرأة، نعتقد لأول وهلة أنها صوت إحدى بنات المتوفى، نكتشف مع القطع السلس إلى داخل الأوتوبيس أن الصوت لامرأة اكتشفت سرقة نقودها، دمجت المونتيرة العظيمة نادية شكرى المشهدين معا عن طريق شريط الصوت فقط، فأصبح صراخ المرأة التى نُشلت عدّودة على الأب، واحتجاجا على موته، وأصبح ضرب حسن للص وسبابه له تعبيرا عن شىء كان يجب أن يفعله مع الذين قتلوا والده، أصبحت واقعة النشل فى الأوتوبيس مجازا بصريا هائلا لفعل نشل الورشة والوطن من أصحابه، وأصبح الموت واكتشاف السارق بعثين جديدين لحسن، تقتحم الصمت ومؤثرات اللكمات نغمة «بلادى بلادى» بسرعة بطيئة حزينة «موسيقى تصويرية للرائع كمال بكير»، بالتزامن مع تحول اللقطة إلى الحركة البطيئة، يثبت الكادر على لكمة وسباب هائل كأنه قادم من النفق/ الأوتوبيس، ومن زاوية عدسة واسعة جدا، هذه اللقطة الأخيرة هى التكثيف البصرى الفذّ للفيلم بأكمله، إنه لكمة الجيل المهمّش ضد اللصوص، لا مهادنة ولا صمت، ستدفعون الضريبة كاملة أيها الأوغاد، عاد الشاطر حسن وجيله من جديد، عادوا جنودا فى معركة أصعب بكثير من حرب أكتوبر.