التقيت بالأمس -مع زملائى- الرئيس التونسى المنصف المرزوقى، ووجدته ومساعديه مصممين على العمل لأخذ تونس للأمام وإعادة بنائها، وفى نفس الوقت مدركين لحجم الصعوبات التى تكتنف ذلك. قال المرزوقى إن تونس تخطت مرحلة هدم النظام القديم وبدأت مرحلة إعادة البناء، واكتشف التونسيون -طبعا- أن إعادة البناء أشق وأصعب. «ستكون تكلفة إعادة البناء باهظة»، قال، مضيفا فى أسى، أن الاستبداد كلف العرب الكثير فى وجوده، ويكلفهم تكلفة أخرى اليوم فى سعيهم للقضاء عليه. ثم أردف -لمن فى نفسه شك- أنه مهما كانت هذه التكلفة باهظة فسوف ندفعها، فى كل البلاد العربية، لأن المجتمعات العربية لم تعد تطيق الاستبداد، ولن تتركه يستمر أو يعود. انتهت تونس من معركة الاستبداد إذن، أطاحت بالحاكم المطلق وحاشيته، واتفقت على ملامح عامة لعملية انتقالية، محافظة -حتى الآن- على المبادئ العامة للعقد الاجتماعى التونسى، وبدأت عملية إعادة البناء. لم تقاوم أجهزة الدولة عملية الانتقال، بل على العكس ساعدتها، بما فى ذلك الجيش والشرطة. أدركا، وبقية أجهزة الدولة، أن الانتقال صار حتميا، وأن الاستبداد ولَّت أيامه، وفهموا أن مصلحة البلاد ومصلحة مؤسسات الدولة تكمن فى إعادة بنائها وبسرعة، وأن تصبح جزءا من تونسالجديدة. هناك صعوبات ولا شك، وقضاء يثير المتاعب لعملية الانتقال، بسبب تورطه مع النظام السابق، لكن مجمل مؤسسات الدولة تتعاون إيجابيا للتعامل مع هذه المشكلات. تخطت تونس إذن مرحلة الاستبداد، وصارت الآن تواجه المعركتين الكبريين: ثورة المطالب الاقتصادية والاجتماعية، والصراع بين الإسلاميين والديمقراطيين. الثورة التى قامت اندلعت شرارتها على خلفية المطالب الاقتصادية والاجتماعية. فمثلما يذكرنا الاقتصادى البيروفى «هرناندو دوسوتو»، فإن محمد بوعزيزى لم يشعل النار فى نفسه إلا بسبب مصادرة مصدر رزقه الذى ظل يجاهد سنين من أجل بنائه، من أجل أن يجد لنفسه ولعائلته موطئ قدم فى اقتصاد أغلقه أصحابه على أنفسهم وتركوا القطاع الأعرض من الشعب خارجه. ويدرك المسؤولون التوانسة الجدد، المنتخبون ديمقراطيا وبحرية، أنهم لن يستطيعوا الاستجابة لتطلعات أغلبية الشعب الاقتصادية والاجتماعية سريعا. لن تنتعش قطاعات الاقتصاد فجأة، ولن يقوم التعليم من عثرته فى شهور ولا سنوات قليلة، ولن يقفز الناتج المحلى قفزات كبيرة، ولن يمكن توزيع الدخل بشكل أكثر عدالة بين عشية وضحاها. وكل درهم ينفق على خدمة عامة أو لرفع الحد الأدنى للأجور أو لتحقيق مطلب اجتماعى لا بد أن يأتى من مكان ما والأماكن التى تنتج دراهم محدودة. أما تصور إمكانية تمويل كل هذه الحلول بفلوس الفساد فهو تصور وهمى، لا يعرف الكثير عن حجم التمويل المطلوب لتحقيق هذه المطالب. على الجانب الإيجابى هناك رغبة حقيقية وقوية لدى العالم الخارجى -غير العربى فى ما يبدو- فى إنجاح الثورة التونسية ومساعدتها على مواجهة التحديات الاقتصادية الآتية. هناك وعود، وجهود، لكن من عمل بهذا المضمار يعلم أن هذه الوعود لا تتحقق بالكامل، وأن جهود المساعدة تستغرق وقتا، ولا تستجيب دائما لحاجة المتلقى، بل فى أكثر الأحيان تستجيب لحاجة مقدم المساعدة نفسه، الذى يرغب فى تصريف بضاعة لديه، تكنولوجيا أو معرفة ما أو حتى بضائع وسلع وخدمات. المساعدة مهمة، لكنها ليست حلا سحريا. سيأخذ الأمر وقتا إذن، وبالطبع لن يتفهم الكثيرون ذلك. لن يتفهمه هؤلاء المواطنون باديو الفقر الذين رأيتهم على باب القصر الجمهورى فى قرطاج، الذين يريدون مقابلة الرئيس، ولن يتفهمه الموظفون الذين سيفقدون جزءا من قدرتهم الشرائية، ولن يفهمه هؤلاء الذين أشعلوا شرارة الثورة، وما زالوا يبحثون عن موطئ قدم فى الاقتصاد الرسمى، ولا تسمح لهم اللوائح والقوانين والبيروقراطية والفساد الصغير بالدخول. ومن المؤكد أنهم سيعبرون عن غضبهم، واحتجاجهم، والسؤال هو إلى أى مدى؟ وبأى شكل؟