كان طلعت حرب يقول «بعضنا ورث طبيعة العبيد نتيجة الاستعمار.. كل ناجح نحاول أن نحطّمه، ولو أن معاولَنا كانت فى البناء لكان لنا فى كل قرية هرمٌ أو مصنع»، ولم يكن يدرى أن نهايته ستكون تصديقا لمقولته، وأن معاول العبيد ستتكالب لتحطيمه. مع نهاية الثلاثينيات من القرن الماضى كان جيل الزعامات التاريخية بدأ ينحسر لصالح جيل جديد من أفاعى السياسة ورجال الأعمال من حلفاء القصر والإنجليز، وكانت نُذُر الحرب العالمية الثانية تتصاعد، وتكالبت الأفاعى لالتهام الصيد الثمين، بنك مصر، وقد تحوّل إلى إمبراطورية اقتصادية مصرية لا تتوقف عن التمدد والتوسع، لكن أنَّى لهم هذا قبل أن يحطّموا حارسه، طلعت باشا حرب، وواتتهم الفرصة عندما انعكس تصاعد نُذُر الحرب على الحياة السياسية والاقتصادية فى مصر، واستقالت وزارة محمد محمود باشا فى أغسطس 1939، وحلّ محله على ماهر باشا (عدو طلعت حرب اللدود) الذى اختار بدوره لمنصب وزير المالية، حسين سرى باشا، العدو الآخر لطلعت حرب. وفى تفسير سر ذلك العداء، يقول رشاد كامل فى كتابه عن طلعت حرب: «يؤكد الكثيرون أن الخلاف والعداوة بين على ماهر وطلعت حرب يعودان إلى عشر سنوات سابقة عندما رفض طلعت حرب سنة 1929 عرْض منصب فى مجلس إدارة بنك مصر على وزير المالية وقتها على ماهر باشا، لأنه كان يشغل منصب عضو مجلس إدارة البنك الأهلى المنافس الرئيسى لبنك مصر، أما حسين سرى باشا فقد كان من أكثر الأشخاص ارتباطا وولاءً للبريطانيين، وكان ارتباطه الوثيق بالمليونير عبود باشا ليس بخافٍ على أحد، وقد كان أحد طموحات عبود أن يرث طلعت حرب فى رئاسة بنك مصر». كان الملك فاروق، 19 سنة، يثق فى على ماهر ويعتبره رَجلَ أبيه الملك فؤاد، وانتهز على ماهر فرصة نشوب الحرب، وأقنع الملك فاروق بسحب أموال الخاصة الملكية من بنك مصر، ثم عمل على نشر هذا الخبر فى الأندية والمجتمعات، فساد الذعرُ بين العملاء وتزاحموا على سحب ودائعهم من البنك، وبدلا من أن تقف الحكومة إلى جانب بنك مصر، سارع صندوق توفير البريد الحكومى إلى سحب كل ودائعه من بنك مصر (3 ملايين جنيه)، ولم يسحب مليما من عشرة ملايين جنيه أودعها فى البنك الأهلى المنافس التقليدى لبنك مصر (كان أجنبيا ويرأسه السير إدوارد كوك). تَحامَل الرجل العظيم على نفسه وذهب إلى وزير المالية حسين سرى باشا يرجوه واحدا من ثلاثة حلول: إما أن تُصدر الحكومة بيانا بضمان ودائع الناس لدى بنك مصر، وإما أن تحمل البنك الأهلى (بما لديها من تأثير وودائع) على أن يُقرض بنك مصر مقابل المحفظة، وإما أن تأمر صندوق توفير البريد الحكومى بعدم سحب ودائعه من بنك مصر. ووجدها حسين سرى باشا فرصة للنيْل من الأسد الجريح فقال له «يا طلعت باشا إن إدارتك للبنك سيئة»، فقال له طلعت حرب فورا «لقد كنتُ أعطيك بيدى هذه كخبير ستمئة جنيه كل سنة، فكيف تكون اليد التى تقبل منها هذا المال يدا لا تُحسن الإدارة؟»، فأبلغه حسين سرى أن الحكومة ستتدخَّل لإنقاذ البنك بشرط واحد، فسأله طلعت حرب: ما هو؟ قال سرى باشا «أن تترك البنك»، فقال له طلعت حرب دون تردد «من الآن.. ما دام فى تركى للبنك حياة له». كانت الطعنة بالغة القسوة على رجل لم يُعرف عنه إلا أنه كان دائما كبيرا فى خصوماته، ومما يُروى عنه فى هذا الشأن أنه لم يؤيِّد «الوفد» فى يوم من الأيام ولم يكن محبا لسعد زغلول، لكن فى اليوم الذى أنقصت حكومة إسماعيل صدقى معاش مصطفى النحاس، زعيم «الوفد»، وامتنع عن قبض المعاش ورفع قضية على الحكومة، لم يتردد طلعت حرب فى إقراض النحاس بلا ضمان، متحديا الملك فؤاد وحكومة إسماعيل صدقى، وعندما علم أن الوفدى الصميم، عباس محمود العقاد، عاجز عن دفع إيجار بيته بعد أن ترك «روزاليوسف»، استدعاه وفتح له حسابا على المكشوف واشترى معظم النسخ التى لم يبعها من كتابه سعد زغلول (الذى لم يكن طلعت حرب محبا له).. رجلٌ كهذا تقتله الخسّة، وقد كانت الطعنة ممزوجة بالخسّة ومن هنا كانت قسوتها.. كان طلعت حرب بعد أن غادر بنك مصر يُغالب دموعه ويقول «لقد مت ولم أدفن»، وكان يقول للمقربين منه «الحمد لله.. فليبقَ بنكُ مصر وليذهب ألفُ طلعت حرب».. عاش طلعت حرب عامين بعد خروجه من قلعته مقيما فى بلدته النعناعية بالقرب من دمياط ووافته المنيّة فى أغسطس 1941، ذهب شانؤوه الذين لا يذكرهم أحد، وبقى بنك مصر وبقى طلعت حرب حاضرا فى غيابه.. جزاه الله عن مصر خير الجزاء.