لم ينافس أمل دنقل شاعر مصر العظيم فى جذرية رؤيته للصراع مع الكيان الصهيونى فى رائعته «لا تصالح» التى حسم بها مسار الصراع مع هذا الكيان عقب عدوان يونيو 1967 غير الشاعر الفلسطينى المبدع سميح القاسم وتوأمه الروحى محمود درويش. كانت قصيدة «لا تصالح» تعد بمثابة صمام الأمان ليس فقط للمصريين، بل لكل العرب، بأن العدوان أو النكسة أو حتى الهزيمة لن تكون أبدا نهاية المطاف، وأنه لا صلح ولا تفاوض ولا اعتراف أبدا بهذا العدو الغاصب. قدم أمل دنقل فى «لا تصالح» كل ما يدعم هذا الصمود، وكل ما يحيى روح المقاومة وأمل تحرير الأرض المغتصبة مهما كان الثمن، لأسباب كثيرة، أبرزها أن هذه الأرض رواها دم المصريين الذى لا يقارن أبدا بأى دم. لم تكن نزعة عنصرية أبدا عند أمل دنقل عندما رفض أن يقايض دما بدم، بل كانت إصرارا على الثأر ونزعة العزة والكرامة، ورفضا مسبقا لما روجه تيار الرّدة والانبطاح تحت مسمى «كسر الحاجز النفسى» لتبرير الاستسلام والتطبيع. ولم يكن التحدى عند سميح القاسم جنونا، بل ثقة بأن كل ما يمتلكه العدو من أدوات القتل والبطش المتفوقة مهزومة حتما أمام إرادة الثبات والبقاء عند شعب أدمن عشق أرضه. فى قصيدته «رسالة إلى غزاة لا يقرؤون» صرخ سميح القاسم كما لم يصرخ أحد قبله: «تقدموا تقدموا كل سماء فوقكم جهنمُ وكل أرض تحتكم جهنمُ تقدموا يموت منا الشيخ والطفل ولا يستسلمُ وتسقط الأم على أبنائها القتلى ولا تستسلمُ تقدموا». رحل سميح القاسم لكن قصيدته هذه وغيرها الكثير والكثير ظلت تفرض إرادة التحدى والشموخ لكل أبناء فلسطين: الطفل قبل الشيخ، والمرأة قبل الرجل، كما هى الآن مشاهد غزة. رحل سميح القاسم وقبله رحل محمود درويش وقبلهما رحل أمل دنقل، لكن إرادة التحدى لم ترحل أبدا، ولن ترحل. حاولوا اغتيال هذه الإرادة فى شخص محمد الضيف، قائد كتائب عز الدين القسام الجناح العسكرى لحركة المقاومة الإسلامية «حماس»، حاولوا خمس مرات وفشلوا، فى السادسة، مساء الثلاثاء الماضى، وعقب انسحابهم المفتعل، وغير المبرر، من مباحثات التهدئة فى القاهرة حاولوا اغتياله وللمرة السادسة، ولكنهم لم ينالوا منه، فقط هدموا البيت على من فيه، فقتلوا زوجته وطفله الرضيع على، لكنهم لم يصلوا إلى من استهدفوا. كان بنيامين نتنياهو يبحث عن انتصار فى حربه الإجرامية ضد الشعب الفلسطينى فى قطاع غزة يسوقه عند منافسيه فى حكومته، ولم يجد غير اغتيال محمد الضيف رمزا لهذا الانتصار، رمزا يستحق أن يضحى من أجله بمفاوضات التهدئة فى القاهرة، وفعلها وانسحب تحت وهم أن يحقق الانتصار الذى أراده، بعد أن وصلته معلومات استخباراتية عن وجود الهدف فى منزل أسرته، لم يحتمل الفرحة، وركض وراء أوهامه، أفشل المفاوضات، لكنه لم يصل إلى محمد أبدا ولن يصل. يعرف نتنياهو جيدا ما يمثله اغتيال محمد الذى قام على مدى عشرين عاما، كما يقول الجيش الإسرائيلى بالتخطيط لعمليات كبرى ضد إسرائيل من خطف جنود وهجمات استشهادية، وإطلاق صواريخ وحفر أنفاق، وهو من تولى دور مهندس كتائب عز الدين القسام بعد اغتيال يحيى عياش. محمد دياب المصرى هو الاسم الحقيقى ل«الضيف» وهى الكنية التى ألصقت به، لأنه دائم التنقل ولا يستقر فى مكان، هو ضيف دائما، ربما يكون أيضا ضيفا على الدنيا، فهو ولد وعاش فى ثوب الشهيد، وهو الأمل الذى ينتظره، لكنه لا يسعى إليه، لأنه يسعى فقط إلى النيل من العدو وتحرير الوطن والحفاظ على إرادة التحدى والصمود، وإرادة بقاء الإرادة، وهذا هو التحدى الكبير. نعم، إرادة بقاء الإرادة. الهدف الذى أطلق من خلاله أمل دنقل دعوة «لا تصالح» والنزعة التى من أجلها سخر سميح القاسم من كل آليات وجنازير ودبابات العدو بدعودتهم ليتقدموا.. لا لينتصروا بل لينتحروا. لم يكتف سميح القاسم بذلك، لكنه كان حريصا على تشخيص التحدى وتشخيص مآل الصراع كما يراه، وأن يرسم صورة شعبه، وإرادته كما يعرفها صلبة قوية لا تنهزم أمام هشاشة إرادة العدو، فالصراع عنده صراع إرادات لا فقط توازن قوى. صور نفسه وصور كل فلسطينى هكذا.. منتصب القامة أمشى مرفوع الراية أمشى فى كفى قصفة زيتون وعلى كتفى نعشى وأنا أمشى.. وأنا أمشى قالها سميح القاسم ورحل، ويقولها الآن محمد الضيف وسيبقى هو وكل مقاوم فلسطينى وعربى عقيدته هى النصر ومآله هو الشهادة، لا يخشى الموت، لكنه يمشى منتصب القامة مرفوع الراية نحو هدفه يعرفه ويريده ولن ييأس أبدا من تحقيقه.