هم عائدون بقوة ومعهم حجة المقارنة بما تدهورت إليه الأوضاع منذ الثورة حتى الآن! ينبغى الاعتراف للمباركيين بأنهم نجحوا فى قطع شوط كبير نحو هدفهم الأساسى فى العودة إلى الحياة السياسية مرفوعى الرأس، وكأنهم ضحايا تعرضوا للظلم والإيذاء فى أموالهم وسمعتهم المهنية، وفى كرامتهم الوطنية، وفى تشويه خطهم السياسى. وهم الآن أفضل كثيراً مما كانوا عليه فى 11 فبراير 2011، بل بأفضل مما كانوا على كراسى السلطة قبل 25 يناير، بل إن مؤشر أحوالهم يتجه إلى الأحسن، حتى إن الإدانات القضائية التى تصدر، مثلما فى حالة رشيد محمد رشيد وابنته، صارت أخطاء فردية يتحملها أصحابُها، وليس نظام مبارك! وقد لعبوا بأوراق كثيرة، كان أهمها رضوخ الثورة، أو قُلْ استغفالها، لألاعيب مبكرة حرصت على أن تكون محاكمة مبارك ورجاله جنائية وأن يُغمَط حقُ الثورة والشعب فى إخضاعهم لمحاكمة سياسية، وكانت المفارقة أن المتهمين ركزوا فى مواجهة الاتهامات الجنائية على دفاع سياسى! الجانب الأقل فى هذه القضية هو ما تشهده المحكمة التى لم تحسم أمره نهائياً بعد، وهو ما لا يجوز الخوض فيه إحتراما للتقاليد القضائية، ولكن معظم المشهد خارج المحكمة على شاشات التليفزيون وصفحات الصحف، والمسار يتوجه عملياً إلى الانتخابات البرلمانية التى ستحدد على الأرض إلى أى مدى كان نجاحهم! كانت التهمة الأساسية الغريبة الموجهة لهم هى قتل المتظاهرين أثناء الثورة! وكأن الثورة قامت لتحاكمهم على قتل المتظاهرين أثناء الثورة! وماذا عن الأسباب الهائلة الكثيرة المتعددة التى دفعت لقيام الثورة وللمطالبة بمحاكمة مبارك عليها، قبل مقتل المتظاهرين؟ هذا هو الخطأ التاريخى الضخم الذى سوف يقف التاريخ أمامه طويلاً، والذى يستحق أن يتفرغ لدراسته مجموعة من الباحثين الجادين، ليعرفوا الأسباب أولاً، ثم ليشرحوا للأجيال القادمة، كيف وقع الخطأ، ومن هو المسؤول عنه؟ وهل كان يمكن تصحيحه مبكراً؟ ومَن هم المستفيدون من هذا الانحراف فى المسار؟ وفيما كانت استفادتهم؟ وإلى أى مدى؟ ثم، ماهى أثار هذا التغيير على مجريات أمور الحياة السياسية بعد ذلك؟ مَن أعفى مبارك مِن عبء أن يدافع عن نفسه فى تهم إفساد الحياة السياسية التى طالت تجلياتها السلبية كل مناحى العمل السياسى، فى تزوير الانتخابات، وفى الاستيلاء الكامل على السلطة التشريعية وتسخيرها لصالح الحكم، وفى منع إنشاء الأحزاب السياسية ومحاربة تأسيس الصحف الجديدة، والتهاون فى جرائم العدوان ضد المسيحيين وكنائسهم، وفى انتشار الفساد واحتضان الفاسدين والفاشلين وتوليهم لمقاليد الأمور، وفى تبديد المال العام، وفى تفشى الأمراض الكارثية، وتدهور التعليم، والدفع بالبلطجية لتصفية خصومات عصابة الحكم مع المعارضة، والعدوان على الأراضى الزراعية، والسكوت على انتهاك حرم الهرم وتفشى الضوضاء والتلوث والقمامة، وغير ذلك فى القائمة الطويلة التى يحفظها عن ظهر قلب كل من خرجوا فى 25 يناير يطالبون بعزله ومحاكمته؟ كيف لم تُوجَّه لمبارك تهمة أساسية قائمة بذاتها عن عمله على توريث الحكم لنجله؟ ولماذا لم يُستدعَ الشهودُ فى هذه القضية الخطيرة التى وصل التبجح إلى المضى فيها بجسارة وفى علانية ودون أى مصارحة، وكأن الشعب خارج الموضوع؟ كان نجل مبارك يختار الوزارء ويُعينهم فى مناصبهم ويعطى لهم الأوامر ويحضر اجتماعات ضيقة يحضرها رئيس الجمهورية مع عدد ممن يقال عنهم إنهم وزراء لوزارات سيادية، وتنشر الصحف صورة الاجتماع وإلى جواره وزراؤه ينظرون إليه ليستلهموا منه ما يقولون! ويُقال فى الخبر إنه حضر بصفته أمين لجنة السياسات فى الحزب الحاكم! فأين كان أمناء اللجان الأخرى؟ ولماذا لم يحضر أحد منهم قط أى اجتماع مشابه؟ ثم إن هذه الاجتماعات مع رئيس الجمهورية خاصة بمسؤولين تنفيذيين حلفوا اليمين القانونية، التى هى شرط دستورى حدده القانون قبل ممارسة أعمالهم التنفيذية، بينما لم يحلف الشاب العبقرى أى يمين، لأنه كان يرى أنه لا يجوز له أن يحلف على منصب أقل من كرسى رئيس الجمهورية! قال المتهمون، عَرَضاَ وفى سياق الدفاع عن أنفسهم فى تهم أخرى، إنهم لم يسمعوا عن التوريث قط، إطلاقاً، البتة، والله العظيم ثلاثة، وقالوا إنها إشاعة أطلقتها المؤامرة التى كانت وراء أحداث يناير! وكما ترى فهم يسمون «الثورة» بأنها «أحداث» ويصفونها بأنها «مؤامرة»! ووصل الأمر بأحدهم إلى التهديد على التليفزيون بأنه سوف يضرب بحذائه مَن يقول بعد هذا إنها ثورة! هم عائدون بقوة ومعهم حجة المقارنة بما تدهورت إليه الأوضاع منذ الثورة حتى الآن! ويعتقدون بأن هذا كفيل بتجميل صورة مبارك وعهده ورجاله وإلقاء التهم ضد من عمل على تغيير هذا العصر الذهبى! وهذه بالضبط هى نقطة ضعفهم! لأنه، حتى إذا صدقت التهم ضد بعض الأفراد فى التعامل مع الخارج، وفى تمويل أنشطتهم ضد القانون، بل حتى لو صدر ضد هؤلاء أحكام بالأدانة على تعاملاتهم وأنشطتهم، فهذا لا ينفى أن هناك قرابة 20 مليون مواطن صَدَّقوا نداء هؤلاء النشطاء وخرجوا ضد مبارك فى كل ميادين مصر وشوارعها، والمؤكد أن دوافع خروج الملايين لا تمت بصلة لما يقال إنه مخطط أجنبى، بفرض صحته، بل لقد أثبتت الأحداث أن الملايين التى خرجت لأول مرة بهذه الكثرة ضد رئيس مصر كانت لها أسباب قديمة، ولكن الخوف التاريخى من بطش أجهزة الحكم كان يردعها! كما أنه، ومقارنة بما بعد 11 فبراير، فقد زادت أعداد هذه الملايين وتعمق وعيها وتجلى لها حرصٌ أكبر على إنجاح الثورة، وقد واجهوا جماعة الإخوان بكوادرها المدربة على الإرهاب وبالدعم الذى تحظى به إقليمياً ودولياً، ولم يكترث من أرادوا إنقاذ الثورة للغو عن الشرعية المزعومة، بل أسقطوا برلمان الإخوان ورئيسهم المدنى المنتخب!