أمنية عادل - سنوات السجن واللجوء السياسى والغربة تركت بصماتها فى النفس والذاكرة، فكان الثمن باهظا تحمله الدكتور سعد الدين إبراهيم، أستاذ الاجتماع السياسى جراء اقتحامه المنطقة المحظورة وتجاوزه الفكرى والتحليلى لجميع الخطوط الحمراء. فرغم أن توقعاته آنذاك منذ أكثر من 12 عاما بكل ما تحمله من رؤى سياسية عن سيناريوهات التوريث وسقوط الأنظمة العربية كانت تعد نسجا من الخيال لا يستوعبه العقل العربى الذى ظل سجينا لسنوات طويلة تحت وطأة أنظمة ديكتاتورية مستبدة، فإنه أصبح حقيقة اهتزت أركان العالم لها باندلاع الثورات العربية وحركات تحرير الشعوب التى تتنفس الربيع العربى الآن. فقد كان أول من رسم ملامح المستقبل العربى تحت وطأة مخطط التوريث والسلطة الديكتاتورية المطلقة حتى انقشعت الغمة وعاد أدراج الوطن مع ثورة 25 يناير، ليبدأ رحلة جديدة من القراءات التحليلية للمستقبل العربى واستجلاء لهذه الرؤى حول العديد من القضايا والملفات التى أفرزتها ثورات الشعوب العربية والتجربة الديمقراطية فى مصر كان ل "الأهرام العربى" هذا الحوار: - بداية تحدثت عام 2000 عن نظام "المملوكية" كمساهم للعرب فى علم السياسة فى القرن الحادى والعشرين و اعتبرته جذوة الشرارة الأولى التى ستتمخض عنها الثورات العربية فكيف تجلى لك هذا؟ تفتقت الفكرة فى ذهنى أثناء حوارى مع عمرو الدين أديب فى إحدى الفضائيات عقب وفاة الرئيس السورى حافظ الأسد عام 2000 وجاءنى سؤال فى مداخلة تليفونية عن توقعاتى حول الوضع السورى، ومن يخلف الأسد فى الحكم، فارتسم أمام عينى سيناريو التوريث، وتنبأت فى إجابتى بأن بشار، نجل حافظ الأسد سيكون الرئيس السورى المقبل، وأن ظاهرة التوريث ستشمل معظم البلاد العربية مثل العراق وليبيا واليمن ومصر أيضا، على اعتبار أن أى رئيس عربى تمتد به سنوات السلطة لأكثر من عشر سنوات تولد بداخله قناعة تامة بأنه امتلك الأرض والشعب وتغازله فكرة توريثهما لأبنائه، وتساءل أحد المشاهدين كيف يكون النظام الجمهورى هو الحاكم لهذه البلاد وتطبيق فكرة التوريث؟ فأجبته أننا سنستحدث نظاما سياسيا يجمع بين الجمهورى والملكى، وأطلقت عليه اسم "النظام الجملوكى" كهجين من النظامين السابقين، وفى اليوم الثانى على التوالى اتصل بى رئيس تحرير مجلة "المجلة" اللندنية آنذاك وطلب منى كتابة مقال أستوضح فيه "سيناريو" التوريث الذى أشرت إليه، فكان هذا المقال هو القنبلة الموقوتة التى تفجرت فى وجه الشعوب العربية جميعا، فلم ينقض أسبوع إلا وتحققت توقعاتى، وبالفعل خرج أهالى دمشق واللاذقية بسوريا يهتفون لبشار الأسد كرئيس للبلاد، وعندما وصل عدد المجلة فى يوم الجمعة 30 يونيو عام 2000 الساعة 12 ظهرا اختفت جميع النسخ من الأسواق وزج بى فى السجن فى الثانية عشر مساء ليبدأ مسلسل التنكيل بى وبأسرتى. - لكن المعروف آنذاك أن نشاط مركز ابن خلدون البحثى فى مراقبته للانتخابات المصرية لصالح جهات أجنبية هو سبب التهم الموجهة إليك؟ هذا ليس حقيقيا، بدليل أن مركز ابن خلدون تم إنشاؤه عام 1988، وكانت علاقتى فى هذه السنوات الأولى بالرئيس مبارك وأسرته علاقة حميمية وكنا على اتصال دائم منذ أن كان نائبا للرئيس، لكن بدأت المعركة بتفجيرى لملف التوريث المرتقب بالمنطقة العربية، وليس مراقبة المركز للانتخبات، خصوصا أن هذا إجراء طبيعى ومأخوذ به فى جميع الدول الديمقراطية ولا يعد من قبيل التخابر أو العمالة أو الإضرار بالوطن على الإطلاق، لكنها كانت الذريعة التى نسجت حولها عشرات الاتهامات والتلفيقات، وكان أصعبها إلى نفسى اتهامى بالجاسوسية وخيانة الوطن، وبرغم تبرئة القضاء لى لم يكتف مبارك وأعوانه وبعض أعضاء الحزب الوطنى من متملقى النظام بهذا، بل بدأوا حرب الشائعات والاغتيال الشخصى لى ولأسرتى، فطلبت اللجوء إلى قطر، وبالفعل تم انتدابى للعمل بالتدريس هناك. - الأنظمة الديكتاتورية هى القاسم المشترك لاندلاع الثورات العربية وحركة تحرير الشعوب، فما الآلية التاريخية الدافعة للأحداث فى تقديرك؟ إنها دورة التاريخ، فهذه الأنظمة البائدة فقدت شرعيتها وصلاحيتها منذ سنوات، والمعروف لأى نظام حتى ولو جاء بشكل شرعى يمنح له الصلاحيات فهذه الصلاحية تنتهى بأمرين، إما انتهاء الفترة الانتخابية وهذا لا ينطبق بالطبع على الدول العربية، وإما بانتهاء الإنجازات المرتبطة بالنظام، فمثلا يعد الرئيس جمال عبد الناصر نموذجا لشرعية الإنجاز، حيث ارتبطت فترة ولايته بمشروعات قومية ضخمة سواء اقتصادية أم اجتماعية أم سياسية أيضا، إضافة إلى مشروعه القومى العربى كلها أمور استمد منها شرعية نظامه وصلاحيات الحكم التى انتهت بنكسة 1967، وقد تنتهى شرعية الحكم بالاغتيال، كما حدث فى رومانيا وليبيا أو بالنفى كما حدث فى تونس أو بالسجن وإسقاط النظام، كما فى مصر وبالرجوع إلى التاريخ نجد إعدام لويس السادس عشر ملك فرنسا وتشاوشسكو فى رومانيا واغتيال الملك فيصل ولى العهد فى العراق سنة 1958 كلها سوابق تاريخية لإسقاط أنظمة مستبدة، وهذا ما توقعته فى النظم العربية عام 2000 عندما كتبت "إذا لم يخرجوا سلما سيخرجوا قتلا" ومع ذلك أشعر بالحزن والأسى لأسرة مبارك فما كان لهم أن ينتهوا هذه النهاية لولا لم يحكموا صوت العقل، فإن "السلطة المطلقة" كما سبق أن قلت "مفسدة مطلقة" تتحطم على صخرتها أحاديث النصح والتوجيه. - وما تقديرك للمشهد السياسى الحالى وما يعانيه من نوبات صعود وهبوط تثير المخاوف؟ إنه مشهد ثورى رائع وكما قال البعض فى الثورات:"إن الثورة تأخذ فى عواصفها تأتى عاصفة الصالح مع الطالح والحابل مع النابل إلى أن تهدأ رياح الثورة تدريجيا فتعود الأمور إلى نصابها من خلال مؤسسات جديدة وشخوص قادرين على إدارة المجتمع الدولى، وفى يقينى أن هذا يتطلب فترة زمنية تتراوح بين سنة إلى 3 سنوات على أقل تقدير، وبالتالى لاداعى للخوف والقلق على مستقبل الثورة، فالثورة الفرنسية استمرت 14 عاما حتى استقرت والثورة البلشفية التى كان الشيوعيون فيها مجرد فصيل يسمى "المونشفيك" أى الفريق الأصغر نجحوا بعد سنوات بقيادة لينين فى اختطاف الثورة وأطلقوا على أنفسهم "البولشفيك" أى الفريق المهيمن وتحولت الثورة الروسية إلى الثورة "البلشفية" والأمر ذاته فى الثورة الإيرانية والتى قادتها مجموعة "مجاهدى خلق" على غرار شباب التحرير . - حديثك يحمل تلميحا أقرب إلى التصريح بأن الثورة المصرية معرضة للاختطاف؟ هذا صحيح، فالثورة معرضة للاختطاف من قبل ثلاث قوى وهى المجلس العسكرى والإسلاميون وفلول النظام السابق، وقد يخرج شباب الثورة بلا حصاد برغم أن المشهد الحالى قد يبدو قاسيا، فإننى غير منزعج قياسا بالثورات الأخرى التى شهدت إهدارا لدماء غزيرة كما هى الحال فى سوريا وليبيا واليمن، فالثورات دائما مخضبة بالدماء. - مشاهد متكررة من الصراع الدموى قد تهدد نجاح الثورة ومؤسسات الدولة بالانهيار فما احتمال حدوث هذا وهل ينقلب الأمر إلى فوضى؟ لا أتوقع هذا، فالأنظمة تتغير والمجتمعات تظل أكثر رسوخا والدولة أكثر ثباتا فالمجتمع المصرى له طبيعة خاصة منحته القدرة على التماسك ، فهو مجتمع نهرى يعيش منذ آلاف السنين على ضفاف النيل نجح فى بناء أنظمة ومؤسسات اقتصادية وسياسية واجتماعية تتعاقب عليها الأنظمة الحاكمة وتظل هى الأكثر رسوخا والأقدر على البقاء وهذا هو الفهم السيسولوجى الاجتماعى للمجتمع المصرى الذى تعاقبت عليه أنظمة عديدة : جمال عبد الناصر ثم محمد أنور السادات ثم محمد حسنى مبارك وأخيرا المجلس العسكرى. - بلغت مؤشرات النقد أقصاها لأداء المجلس العسكرى خلال الفترة الانتقالية فما تعليقك؟ نجحنا فى إسقاط النظام واختلفنا على البناء الجديد وهذا أمر وارد ولكن علينا بالمكاشفة والمصارحة والتعامل بلغة المصالح ليس مكروها، المهم وضع جميع الأوراق على المنضدة على أن تعيد القوى السياسية الموجودة على الساحة الآن تعريف مصالحها الخاصة داخل إطار من الصراحة واحترام الآخر والاتفاق على قواعد لإدارة الدولة من ناحية وقواعد لاقتسام السلطة من ناحية أخرى فتتبدد الشكوك وتتساقط الاتهامات المتبادلة وتهدأ ثورة جميع الأطراف. - تنبأت عام 2009 بموجة المد الإسلامى فى المنطقة العربية وهيمنتها على الأنظمة الحاكمة فكيف تجلى لك هذا؟ هذا نتاج منطقى لأنظمة ديكتاتورية مستبدة تعاملت مع قوى المجتمع المدنى بما فيها الإسلامى بغباء شديد فحرمتها من ممارسة العمل العام لسنوات طويلة وظلت وراء ستار، إلا أن الإسلاميين توافرت لهم آلية التعبئة السياسية داخل شعوبهم من خلال الخطاب الدينى بالمساجد، فى حين ظلت باقى القوى الأخرى محاصرة مكتوفة الأيدى فاقدة لأية آليات للتواصل الشعبى فمن الطبيعى عندما تندلع الثورات وتسقط الأنظمة تكون الأرض خصبة لظهور التيارات الإسلامية المدعمة بتعبئة شعبية على مدار سنين طويلة كما حدث فى ليبيا وتونس والمغرب واليمن ومصر. - وهل لدى التيارات الإسلامية القدرة على الاستمرار وإنجاح النظم العربية القائمة عليها؟ ستستمر إلى أن تستهلك نفسها ، والاستهلاك إما بالتعثر فى إدارة البلاد التى ستتولى السلطة فيها أو بنجاح إنجازاتها فيتم “مدينة" هذه التيارات بعد حين بمعنى أنهم يتحولون إلى حزب سياسى لا يعتمد على الدين وحده كورقة للنجاح فى صناديق الانتخابات ولكن من خلال إنجازاتهم ونجاحهم فى إحداث طفرة اجتماعية واقتصادية، ويرجع نجاح التيارات الإسلامية فى مصر فى حصد معظم مقاعد البرلمان إلى قدراتهم التنظيمية واستعدادهم السياسى منذ مدة طويلة وانخراطهم فى العمل المجتمعى الخدمى إضافة إلى دعمهم المالى داخلياً وخارجياً. - كيف ترى البرلمان المقبل فى ظل الأغلبية الدينية ومخاوف الليبراليين؟ هذه المخاوف مبالغ فيها حتى ولو جاء البرلمان المقبل بأغلبية للإسلاميين والفيصل فى هذا قدرة الإخوان المسلمين على إحكام العقل لتبديد هذه المخاوف ، فإذا نجحوا فى ذلك وتجنبوا الوقوع فى احتكار السلطة والرأى لصارت الأمور مستقرة، ولكن إذا فشلوا فى ذلك لتكررت تجربة الجزائر لتكون نهايتهم أو على أيدى"تحرير" جديدة بعدما أصبح سلطة رابعة لإدارة البلاد وضميراً للمجتمع المصرى ضد التطرف واحتكار السلطة والرأى. - هل هذا يعنى استمرار التظاهر والاعتصام كمنهج للرفض فيما يراه البعض معوقاً للمسيرة الديمقراطية؟ الشعب ليس كتلة صماء، ولكنه مجموعات وتكوينات وطبقات وطوائف لكل منهم مظالم ومطامح قد تكون أكبر من قدراته وما تشهده الساحة اليوم من اضطرابات وصراعات يرجع إلى أن التطلعات الشبابية التى قادت الثورة تفوق قدراته وبالتالى لم ينجح فى حصد مكاسب ترضيه خصوصاً أنه يفتقد إلى القدرات التنظيمية فى الشارع وبالتالى مازالت شرارة الثورة بداخل هؤلاء الشباب على عكس الإخوان المسلمين والسلفيين برغم أنهم أتوا إلى الثورة متأخرين ، فإن قدراتهم التنظيمية نجحت فى اختطاف الثورة. - لماذا لم تنجح معظم الطوائف السياسية غير الإسلامية فى كسب الأغلبية الشعبية؟ انشغال هذه الطوائف بأحاديث الصالونات والمقاهى وراء خسارتها للأغلبية الشعبية، وفى المقابل نجد الإسلاميين منخرطين فى العمل المجتمعى، وهذه هى الحقيقة، وخسارة هذه القوى السياسية ترجع إلى عدم وعى المواطنين ببدائلها المطروحة وبرامجها، لأنها لم تنزل الشارع، وليس لأى سبب آخر والخاسر دائما يبحث عن أسباب خسارته مستبعدا مسئوليته الشخصية ويعلقها على الآخرين. - كشفت بعض التقارير عن مخطط سيناريو إسقاط الدولة تمهيدا للتدخل الأجنبى.. فما رأيك؟ هذا لن يكون، فمصر دولة محورية فى المنطقة ومجتمعها يتسم بالثبات والاستقرار برغم أية محاولات فى هذا الاتجاه، ولن تكون مصر كسوريا أو ليبيا، ولن يسمح الشعب المصرى لثورته أن تنقلب إلى فوضى تدمر مؤسساته.