كنت أعود من الميدان ليلا أيام الثورة الأولى، كنت أنام على كنبة أصغر من طولى، فتظل رأسى مرتفعة لأننى أسندها على يد الكنبة، وأضم ركبتى إلى صدرى، كأننى فى الوضع الجنينى لأشعر بالاطمئنان، هذه الكنبة كانت فى أقرب مكان للتليفزيون الموضوع فى غرفة المعيشة (كان عطل بسيط قد أصاب التليفزيون جعل الصورة غير واضحة، ولم أتمكن من إصلاحه فى ظل أحداث الثورة، فكنا نرى الصورة مهزوزة، وكانت حالة البحث عن «الجزيرة مباشر» والتشويش عليها لم تكن كافية، فأضفى علينا تليفزيوننا تشويشا على تشويش). كنت فى أغلب أيام الثورة أشعر بالاطمئنان على صديقاتى المقربات، لأن كل واحدة منهن كانت تحتل مكانا فى نفس الشقة (الأقرب إلى الميدان)، وكانت كل منهن لا يمكنها الاستغراق فى النوم مثلى تماما، كنا نعرف أن لنا ابنتين فى اعتصام الميدان، كانت كل منهما تكذب علينا وتدعى وجودها فى مكان خارج الميدان لنطمئن، وكنا نعرف أنهما تكذبان، وكنا ندعى أننا نصدقهما لنطمئن أنفسنا. كانت واحدة مننا تقول لو كل الناس خافوا على ولادهم وقعدوهم فى البيت مش هيبقى فى ثورة، فترد الأخرى يعنى الثورة وقفت على بنتى، ثم بعد ساعة واحدة نتبادل الأدوار، تبدأ التى كانت قوية تشعر بالقلق فتحاول الاتصال بأى أحد ليطمئنها فتفشل وتبكى، فتطمئنها الثانية (ماتخافيش معاها زملاءها بيحافظوا عليها أكتر من نفسهم). وهكذا تمر الساعات نخطف خلالها دقائق لننام. فى تلك الليالى كنت أشعر أننى أترك جزءا منى فى الميدان، أو أن أنا الجزء الذى يرحل ويترك كله فى الميدان. فى تلك الليالى كنت أعرف أن نوارة أحمد فؤاد نجم بنت مصر الذكية هناك فى الميدان، مستيقظة تحرسه بروحها القوية العنيدة الشفافة. كان يأتينى صوتها واضحا عبر التليفزيون المشوش، تصرخ مرة وتهمس مرة، تهدد مرة وتستغيث مرة، تحكى وقائع حدثت أو تتنبأ بما سيحدث. ذات ليلة قالت نوارة مافيش خوف تانى مافيش ظلم تانى، وصدقتها. أليست هى الجزء الذى يحرس الميدان بروحه لا يمكن أن أكذبها. انفضت اللّمة التى كانت تجعل من بيتنا حضنا دافئا، وانفضت اللّمة التى كانت تجعل من الميدان جنة الله على الأرض. وعادت بناتنا يعترفن أنهن كن فى الميدان وأنهن كن يناولن الشباب الطوب فى موقعة الجمل. وعادت نوارة تكتب فى «التحرير» وتصرخ على «تويتر»، وتبكى وتضحك على مدونتها أفكارها الذكية. نوارة تمتلك ذكاء عاطفيا نادرا، والذكاء العاطفى قد يخفق فى معرفة الحقيقة أحيانا. لكنه يظل متوهجا يشع مشاعر ذكية. عندما امتدت أيد حقيرة لبشر أغبياء لتضرب نوارة فى أثناء خروجها من عملها فى يوم عادى، تذكرت كل تلك الأيام الاستثنائية، مشاهد متلاحقة لا علاقة لها ببعضها البعض، يأتى صوت زينة الصبايا فى خلفية كل المشاهد ليقول لى مافيش ظلم تانى. فأشعر بالظلم المكثف. ***** عندما قابلت الأستاذ مالك عدلى، المحامى، أمام النائب العام، حيث كان يتقدم ببلاغ حول واقعة الاعتداء على نوارة، نبهنى إلى أن التطاول على سامية جاهين وأسماء محفوظ لا يقل ظلما عن الاعتداء على نوارة. سامية جاهين.. نجمة إسكندريللا. إسكندريللا صوت الثورة.. فن الثورة.. شعر الثورة. وأسماء محفوظ أول دعوة، وأول اسم، وأول موقف. نوارة وسامية وأسماء.. سميرة ورشا وسلمى ومنى.. سناء وعزة وسالى وغادة ومنال. مصر.. التطاول عليهن.. تطاول على مصر- ذنب لا يغتفر.