بعدما قمع كليبر ثورة القاهرة الثانية، وحرق البلدين (مصر وبولاق حسب تعبير الجبرتى) استدعى مشايخ الديوان، و«لطعهم» فى انتظاره عدة ساعات قبل أن يقابلهم باستعلاء ويقرعهم، ويغرمهم ماليًّا، ويتهمهم بالنفاق، لأنهم انقلبوا ضده ووقفوا فى صف العثمانيين، وكان الحوار كاشفًا لخنوع المثقف فى التعامل مع السلطة، وتقلبه من هذه السلطة إلى تلك، حسب المعلوم والراتب، وتعالوا نكمل الحوار ونتعرَّف على رد الشيوخ.. قالوا: «نحن ما قمنا مع العثمنلى إلا بأمركم، لأنكم عرفتمونا أننا صرنا فى حكم العثمنلى من ثانى شهر رمضان (28 يناير 1800م) وأن البلاد والأموال صارت لهم، خصوصًا وهو سلطاننا القديم وسلطان المسلمين، ثم فوجئنا بحدوث هذا الحادث بينكم وبينهم على حين غفلة، ووجدنا أنفسنا فى وسطهم فلم يمكننا التخلُّف عنهم». (والله كلام صريح، ويحسم خيبة هذا النوع من المثقفين مع السلطة). سألهم كليبر: ولماذا لم تمنعوا الرعية من محاربتهم لنا؟ قالوا: لم نستطع، لقد استقووا علينا بغيرنا، وقد سمعتم ما فعلوه معنا من ضربنا «وبهدلتنا» عندما أشرنا عليهم بالصلح وترك القتال. قال كليبر: إذا كان الأمر كما ذكرتم، ولا يخرج من يدكم تسكين الفتنة، فما فائدة رياستكم؟ وما نفعكم لنا؟ ليس منكم إلا الضرر؟ لأنكم إذا حضر خصومنا قمتم معهم وكنتم وإياهم علينا، وإذا ذهبوا رجعتم إلينا معتذرين، فكان جزاؤكم أن نفعل معكم كما فعلنا مع أهل بولاق من قتلكم عن آخركم وحرق بلدكم وسبى حريمكم وأولادكم، ولكن حيث إننا أعطيناكم الأمان فلا ننقض أماننا ولا نقتلكم، وإنما نأخذ منكم الأموال، فالمطلوب منكم عشرة آلاف فرنك، وزّعوها بينكم، وعليكم أن تختاروا من بينكم 15 شخصًا يبقون عندنا حتى تجمعوا لنا كامل المبلغ، وتركهم وأغلق الحرس الباب خلفه وبقى معهم الترجمان يقرأ لهم أنصبة الغرامات، وكان النصيب الأكبر منها على الشيخ السادات، ثم الشيخ محمد الجوهرى، وأخيه الشيخ فتوح، والشيخ مصطفى الصاوى، والشيخ العنانى، وما بقى تدبرون رأيكم فيه، وتوزعونه على أهل البلد (دائمًا أهل البلد شركاء فى الغرامة والملامة، غرباء فى الهدايا والزعامة!). يقول الجبرتى: بُهت المشايخ وامتقعت وجوههم ونظروا إلى بعضهم البعض وتحيَّرت أفكارهم، ما عدا الذين أفلتوا من الغرامة، مثل البكرى والمهدى (تجاهل الجبرتى الشرقاوى تمامًا فى هذا الاجتماع)، لأن بيتهما تم إحراقه فى الثورة مما يدل على أنهما كانا ضد الثوار، ويصف الجبرتى الشيخ المهدى قائلًا: «كان يستعمل المداهنة وينافق الطرفين بصناعته وعادته». ظل الشيوخ فى حيرة وذهول، وأقتطف نصًّا من الجبرتى حتى لا أتحدث من عندى، إذ يقول: «تمنّى كل منهم أنه لم يكن شيئًا مذكورًا، وظلّوا على ذلك الحال إلى قرب العصر، حتى (بال) أكثرهم فى ثيابه وبعضهم شرشر ببوله من شباك المكان»! يضيف الجبرتى أن المشايخ بدؤوا يتوسَّلون إلى نصارى القبط الذين يعلون فى الديزان مع الفرنسيين، ويقعون فى عرضهم، وبدؤوا ينظرون فى أمرهم، فمن حضر مع الشيوخ، ولم يكن معدودًا من الرؤساء، أخرجوه بحجة، فكان يهرول هاربًا، حتى إن بعضهم ترك «مداسه» وخرج حافيًا وما صدق بخلاص نفسه! هذا فى الوقت الذى انشغل فيه أعيان الأقباط والشيخ المهدى بالتشاور فى تقسيم المبلغ وتوزيعه وتدبيره وترتيبه فى قوائم حتى وزّعوها على الملتزمين وأصحاب الحرف، حتى على بياع التنباك والدخان والصابون والخردجية والعطارين الحواة والقرداتية والمحبظين «القراقوزات والبهلوانات».. كل طائفة عليها مبلغ، وألزموا أصحاب الأملاك والعقار والدور بدفع أجرة سنة كاملة. وبعد «جدول المهدى» صدرت التعليمات بلغة ذلك الزمان: الخالص يتوجه حيث أراد، أما المشبوك فيرسلون معه العسكر حتى يأتى بالمطلوب، ودفع الجميع ما عدا الصاوى وفتوح بن الجوهرى فحبسوهما، وكذلك العنانى، لكنه هرب فأضافوا غرامته على غرامة الشيخ السادات. وهذا الشيخ حكايته حكاية، سنتأملها معًا بإذن الله.