الطفلة تمد يدا بالطعام والأخرى بكوب المياه تستوقف السيارات المارقة قبل المدفع بدقائق يصمت غضب شارعنا المختنق.. تنسحب الضوضاء فجأة كانفصال تيار الكهرباء.. تتوقف الحركة إلا قليلا وعلى استحياء.. كل شىء هادر يسكن سكون انتظار شىء غامض كامن سيشرق.. ويمتد السكون، سحابة تغطى كل شوارع وأزقة مصر على امتدادها.. الكون فى انتظار صوت المؤذن.. مشهد سنوى لا مثيل لروعته وجلاله.. يغسل الروح، ويجدد خلايا الخير والرحمة والمحبة. أطل على الشارع، أرى اتساعه، وأرى الأرض والسماء وما بينهما بوضوح.. يهل نسيم العصارى مع هدير الأذان يشرح القلوب.. ألمح فتاة صغيرة ربما لا تتعدى التاسعة من عمرها، طفلة مصرية جميلة بشورت وتيشيرت تتقدم بنشاط ثم تقف بكل ثقة فى عرض الطريق شبه الخالى، قبل أن أناديها للتحذير من خطر شارعنا الذى لم يعد آمنا، أرى أخاها الأكبر قليلا يقف أمامها على الرصيف المقابل وبجواره شخص كبير.. دقائق قليلة وأفهم ما أرى فأبتهج.. وتسجل ذاكرتى هذا المشهد اليومى الجميل.. كارتونة وجبات صغيرة وأكواب بلاستيك وجركن ثلج، تأتى بها الأسرة من شارع جانبى لتقف هنا بجوار كولدير مياه محصن بسياج حديد، أقامه فاعل خير منذ سنوات ليشرب عابر السبيل ويرتوى.. الطفلة تمد يدا بالطعام والأخرى بكوب المياه تستوقف السيارات المارقة.. وكلما توقفت سيارة، وقبلت هديتها تتقافز بفرح لتأتى بغيرها.. يستمر المشهد إلى ما بعد المدفع بعشر دقائق.. أتابعهم وهم عائدون.. الأب يحتضن طفليه.. الشارع آمن.. الهواء ازداد نقاء وتعطر بهذه القلوب النقية، وقلبى امتلأ سلاما وثقة بأن مصر منصورة بإذن الله.. أصبحت أنتظرهم يوميا لأرتوى، فى البداية حاولت معرفة هل أفطروا مبكرا، أم أنهم مسيحيون.. ثم قمعت فضولى، فالديانة الأولى مصرى. أما هذا الكولدير المنقذ من العطش.. فلو تكلم سيروى تاريخ شارعنا قبل وبعد 25 يناير 2011.. كان شارعنا شبه خالٍ وهادئا تماما فى الستينيات.. وأصبح نصف آمن بعد تصاعد أعداد أطفال الشوارع الباحثين عن طعام ومأوى وثمن الكلة لتخدير جوعهم وتشردهم.. ومع ظهور حزام العشوائيات والمحمول، بدأ هؤلاء الأطفال فى التحول من التسول واستدرار العطف إلى خطف المحمول من شبابيك السيارات المفتوحة، ومن الأيادى، ثم اقتحموا العمارات وسرقوا كل ما هو خارج الأبواب المغلقة.. مشايات المداخل وصناديق القمامة البلاستيك وأُكر الأبواب النحاسية وأغطية البالوعات الرصاص، وأصص الزرع، وكل ما يمكن بيعه ولو بجنيه.. وكان الكولدير البرىء هو مكان تجمعهم للمراقبة. بعد عزل مرسى أصبح هذا الكولدير يقدم المياه بكرم لكل الأطياف المتصارعة فى حرب إعادة مرسى أو التدمير والنهب!.. يبكر أولادنا الجنود قبل صلاة كل جمعة، يقفون انتباه تحت الشمس إلى ما بعد الغروب، متأهبين للغدر وللتضحية بأرواحهم لنطمئن.. تصل حشود تتزعمها وجوه لا نعرفها بأزيائها وأناشيدها العربية الغريبة حاملة رايات رابعة وطبول الحرب، تدمر السيارات والمحلات التجارية التى يرفض أصحابها المسيحيون دفع الجزية.. ويرفض أصحابها المسلمون دفع شهرية الفتوات الجدد وسطاء البلطجية.. يحرقون سيارات الشرطة أولا ويهللون بالنصر رافعين رايات رابعة مع أنها علامة هزيمة، لأنها فضحت مخططاتهم ومموليهم وخيانتهم!.. ينشرون الفزع بفرح ويتوقفون أمام الكولدير للتزود بمياه جارية.. نتابع خروجهم من الشارع مع غروب الشمس.. وقبل أن تغلق عربات الأمن المركزى أبوابها، يتقدم ناحية الكولدير واحد من المجندين قابضا على زجاجة المياه الفارغة.. يكاد يزحف من الإجهاد ومن إصابة قدمه التى يضاعف آلامها ثقل الحذاء والدرع، وثقل الموقف وليس المهمة. ينطلق المدفع والصبية الجميلة تهدى العابرين تمرا وماء، وتعود الأسرة الصغيرة لتستعد لعطاء يوم جديد، هذه الوجبة هى صلاة مقبولة تفرح قلب الرب وتغسل جراح الشارع والوطن بمياه جارية لن تنقطع. ويتحول الكولدير فى شارعنا إلى شاهد وراوٍ، راوٍ للتاريخ وللعطش. صباح الخير أستاذ رشيد.. أرجو إضافة لوحة بيكار الشهيرة للبيوت المتلاصقة فى الحارة المصرية.. أشكرك.