قد يتصور البعض، عن غير وعى، أن الحرب الإجرامية التى يشنها الطيران الإسرائيلى ضد قطاع غزة، التى تحمل اسم «الجرف الصامد»، ويحتمل أن تتطور إلى اجتياح برى شامل للقطاع، تعبر عن عوامل قوة فى الكيان الصهيونى، لكن العكس هو الصحيح. فما يحدث الآن يمكن اعتباره «حربا استباقية» ضد ظروف ذاتية آخذة فى التبلور فى الأوساط الفلسطينية منذ جريمة اختطاف الفتى الفلسطينى محمد أبو خضير من جانب ستة من شباب اليمين اليهودى المتطرف وتعذيبه وإحراقه حيا والتمثيل بجثته عقب استشهاده. المظاهرات التى اندلعت فى القدسالشرقيةالمحتلة عقب هذه الجريمة، التى أعادت إنتاج «الهولوكوست» بأيدى اليهود ضد الشعب الفلسطينى هذه المرة، كسرت حاجز الخوف، وبرهنت على فشل كل إجراءات التهويد التى تجرى على قدم وساق منذ سنوات لإكمال تهويد القدسالمحتلة، وتفريغها من أهلها، لكن الأهم أنها بلورت معالم أو مؤشرات لغليان داخلى فلسطينى مكبوت يمكن أن يفجر انتفاضة شعبية فلسطينية ضد الاحتلال وضد الحكم الفلسطينى الفاشل والعاجز فى الضفة وقطاع غزة معا. لكن هذه الحرب، هى من ناحية أخرى لا تقل أهمية، حرب «جنى ثمار» واقع عربى مأزوم ومهزوم، وواقع إقليمى شديد التفكك والانقسام، وواقع دولى مهترئ وظالم ومتواطئ. يحلم الإسرائيليون بهذه الحرب الإجرامية جنى ثمار الاختلال الشديد فى توازن القوى العربى- الإسرائيلى، الذى يعمل منذ سنوات لصالح الكيان الصهيونى بعد أن تم تدمير الجيش العراقى، ويتم تدمير الجيش السورى، وفى ظل حرب الاستنزاف التى يتعرض لها الجيش المصرى، وفى ظل تحول المسار الفعلى للصراع فى المنطقة من صراع بين العرب وإسرائيل إلى صراع داخل كل دولة عربية مع انطلاق مشروع الصراع الطائفى - العرقى، والعمل على إعادة تقسيم وتفكيك الدول العربية ردا على مشروع الموجات الثورية، التى كان يمكن فى حال نجاحها أن تخلق واقعا ثوريا عربيا جديدا يؤسس لنظام عربى جديد أكثر فعالية من النظام الحالى، وعلى أنقاض المشروعات الإقليمية الأمريكية بالمنطقة. يدرك الإسرائيليون أنه لا توجد دولة عربية لها من الوقت ومن الاهتمام ما يجعلها تعطى فلسطين ضمن أولوياتها فى ظل طغيان الأولويات الداخلية، وتفوق مصادر التهديد الداخلية على كل مصادر التهديد الخارجية بما فيها الخطر الإسرائيلى، وما يحدث الآن فى العراق وسوريا بالذات كفيل بأن يغرى إسرائيل على المزيد من العربدة والاستكبار. ويحلم الإسرائيليون بأن سقوط معظم الدول العربية فى خيار «النأى بالنفس» عن كل المشكلات والأزمات الخارجية حتى ولو كانت قضية فلسطين والانشغال بجدول الأعمال الداخلى، وإعطاء الأولوية لاعتبارات الأمن الداخلى يوفر المناخ المناسب للتوسع الإسرائيلى وفرض مشروع «الدولة اليهودية الكبرى» على حساب الحقوق المشروعة للشعب الفلسطينى. ويدرك الإسرائيليون أهمية الانحراف الذى حدث فى الإدراك الاستراتيجى بعديد من الدول العربية ل«العدو» وبالذات منذ الغزو الأمريكى للعراق واحتلاله عام 2003، وصعود أولوية مواجهة الخطر الإيرانى على الخطر الإسرائيلى والحرص على توظيف ذلك للترويج للدور المهم الذى يمكن لإسرائيل أن تقوم به «كموازن إقليمى» داعم للعرب فى مواجهة الخطر أو العدو الإيرانى. سقوط كثير من العرب فى هذا الانحراف يشجع «الإسرائيليين» على أن أيا من الدول العربية لن تفكر فى أى عمل عدائى ضد إسرائيل حتى لو اجتاحت قطاع غزة. يأتى الانشغال الإيرانى بمفاوضات البرنامج النووى مع «مجموعة 5+ 1»، وما يمكن أن يسفر عنه من توافق أمريكى- إيرانى وتفاهمات إقليمية ليدعم طموحات إسرائيل باستثمار هذا التوافق ومقايضة التفاهم حول البرنامج النووى الإيرانى بتفاهم حول مشروع تسوية يتوافق مع المشروع الإسرائيلى للسلام القائم على أساس الدولة اليهودية على معظم أراضى فلسطين. هذه التطورات مجتمعة تقف خلف العدوان الإجرامى الحالى على قطاع غزة اعتقادا من قادة الكيان أن هذا هو الوقت المناسب ل«جنى ثمار» الربيع العربى، الذى يعتبرونه كلمة السر فى تفكيك الرابطة العربية حول فلسطين والطريق الميسرة لإحياء مشروع تفكيك الدولة الوطنية العربية وإقامة دويلات طائفية وعرقية على أنقاضها تكون حليفا للدولة اليهودية فى فلسطين فى ظل شيوع مناخ عربى لم يحدث أى تحول نوعى فى الموقف الغربى من الصراع مع إسرائيل بعد كل تلك الثورات. رغم ذلك فإن هذا العدوان تقف خلفه عقلية «اليهودى المهزوم»، المدرك لاستثنائية دولته والمستعد دائما لحمل جواز سفره والهروب إلى الخارج، هذه العقلية هى الدافع الأهم لفرض «هولوكوست فلسطينى» مواز لما يروجون له ب«الهولوكوست اليهودى»، فالإجرام الذى جرى تنفيذه ضد الفتى الفلسطينى محمد أبو خضير بتعذيبه وحرقه حيا ثم التمثيل بجثمانه، والدعم الذى يحظى به منفذو هذه الجريمة من جانب الشرطة الإسرائيلية باعتبارها جريمة ب«دوافع وطنية» تستحق المكافأة وليس المحاسبة يعرى ضعف الإسرائيليين داخل دولتهم، وهو الضعف الذى كشف عنه مؤخرا تامير باردو، رئيس المخابرات الإسرائيلية «موساد»، الذى اعتبر أن فلسطين والفلسطينيين هم العدو والتهديد الأول لإسرائيل عكس ما يروج له رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو أن إيران هى العدو، الذى فاجأ الحضور فى إحدى الندوات معلقا على حجم التهديدات التى تواجه إسرائيل الآن، خصوصا التهديد الفلسطينىوالإيرانى والإسلامى الجهادى بالقول: «لكنى ما كنت أوصيكم بالمسارعة إلى الحصول على جواز سفر أجنبى»، فى إشارة إلى أن هذا الجواز يبقى خيارا مؤكدا لشعب يدرك أن وجوده غير دائم فى وطن يعرف قبل غيره أنه ليس وطنه.