لا يكاد يمر يوم أو حدث دولى مهم دون أن تثبت إسرائيل فى كل مرة أن لها اليد الطولى فى تشكيل الأحداث وإخراجها بالشكل الذى يتوافق مع مصالحها وأغراضها. شهد العالم الدليل على ذلك مؤخرا فى مؤتمر الأممالمتحدة الثانى لمناهضة العنصرية الذى عقد فى جنيف فى نهاية الأسبوع الماضى، وكان المؤتمر الأول قد عقد فى مدينة ديربان بجنوب أفريقيا فى عام 2001، مناسبة لفضح جرائم إسرائيل العنصرية ضد الفلسطينيين، أما الحدث الثانى اللاحق فهو الزيارة المرتقبة التى سيقوم بها رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو للقاهرة والتي سبقها تصريحات سياسية موحية ومتطرفة لوزير خارجيته أفيجدور ليبرمان، الغرض منها إعداد مصر نفسيا لسياسة اليمين الإسرائيلى الشرس، قبل أن يتوجه الجميع أفواجا إلى واشنطن لعرض مواقفهم وطلب التأييد لها. قبل شهور من مؤتمر ديربان الثانى جندت إسرائيل بعض كبار دبلوماسييها لزيارة عدد من دول العالم لإقناعها بمقاطعة المؤتمر بحجة أنه سيكون منبرا لتوجيه الاتهامات لإسرائيل ولمعاداة السامية وهى التهمة الإسرائيلية المعهودة التى تجرح الأوروبيين. ونجح دان ليبرمان سفير إسرائيل السابق لدى الأممالمتحدة فى إقناع أستراليا بمقاطعة المؤتمر، كما قاطعته ست دول أوروبية وكندا والولاياتالمتحدة التى سبق وأن انضمت إلى إسرائيل فى مقاطعة المؤتمر الأول، كان قرار الولاياتالمتحدة في اللحظة الأخيرة قبل بدء المؤتمر مثارا للدهشة، مما دعا تجمع النواب السود فى الكونجرس الأمريكى إلى الإعراب عن استيائهم، لأن أول رئيس أمريكى ينتسب لأصول أفريقية قرر مقاطعة مؤتمر يبحث فى ظاهرة العنصرية البغيضة التى كانت أفريقيا أكبر ضحاياها، منساقا وراء النفوذ الصهيوني فى أمريكا، وذلك مؤشر لمن يستبشرون برئاسة أوباما بألا يغفلوا نفوذ إسرائيل المتغلغل فى جميع دوائر صنع القرار الأمريكى، وخاصة الكونجرس الذى تعتبره إسرائيل إحدى مستوطناتها. كذلك نجحت إسرائيل من خلال حشد الدول الأوروبية للتهديد بمقاطعة المؤتمر فى التأثير على الوثيقة الختامية، حيث خلت من أى إشارات إلى ممارسات إسرائيل العنصرية ضد الشعب الفلسطينى والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان فى الأراضى المحتلة، بل إن مفاوضات الصياغة النهائية لوثيقة المؤتمر حجبت أى إشارة أو إدانة لحض على كراهية أو ازدراء الأديان كما تتمثل فى تكرار نشر الصور المسيئة للرسول فى الدنمارك وهولندا وبعض الدول الأوروبية الأخرى، وهكذا سيطرت إسرائيل وهى تقاطع المؤتمر على مجرياته وإعلانه الختامى. لكن إسرائيل لم تستطع أن تكمم عدوها الأكبر الرئيس الإيرانى محمود أحمدى نجاد الذى واجه المؤتمر بأكمله وضع فيها حقيقة دولة إسرائيل فى السياق التاريخى الصحيح، وهو ما لم يجرؤ عليه أى وفد عربى. قال أحمدى نجاد فى إشارة للدول الأوروبية: «بعد نهاية الحرب العالمية الثانية لجأوا إلى العدوان المسلح لتشريد أمة بكاملها بحجة معاناة اليهود، وأرسلوا مهاجرين من أوروبا والولاياتالمتحدة وأماكن أخرى من العالم لأجل إقامة حكومة عنصرية تماما فى فلسطين. ولأجل التعويض عن العواقب الوخيمة للعنصرية فى أوروبا ساعدوا على إقامة أكثر النظم العنصرية القمعية قسوة فى فلسطين». قال الرجل كلمته ومضى دون إشارة إلى محرقة اليهود الهولوكوست التى أفاضت وسائل الإعلام الغربية فى الترويج لإنكاره لها. وكانت إسرائيل قد أحكمت استعداداتها لاستقبال أحمدى نجاد، فما إن بدأ خطابه وعند أول إشارة لممارسات إسرائيل العنصرية انسحب من قاعة الاجتماع ممثلو 23 دولة من أعضاء الاتحاد الأوروبى، ولم يكن ذلك بالمصادفة، بينما بقيت وفود الدول المائة والأربعين المشاركة فى المؤتمر، بل وصفقوا له. ومع ذلك فإن الوثيقة الختامية للمؤتمر أقرت فى فقرة منها بزيادة ظاهرة التعصب ضد الأديان والأجناس والثقافات، وإن لجأت إلى التعميم سعيا وراء تحقيق توافق الآراء كما هى العادة فى المؤتمرات الدولية الكبرى للأمم المتحدة. أعربت الوثيقة عن استهجان المؤتمر لظواهر كراهية الإسلام ومعاداة السامية وكراهية المسيحية ومعاداة العروبة.. حتى لا يستثنى أحد أو يغضب أحد. وهكذا انتهى المشهد بصياغات بلاغية محبوكة ومبادئ إنسانية سامية ليعود بعدها الجميع وخاصة إسرائيل لممارسة كل ألوان التعصب والعنصرية والقمع التى دأبوا ودأبت عليها. أما المشهد الثانى المنتظر فهو زيارة بنيامين نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل الجديد للقاهرة بدعوة مصرية. أعدت إسرائيل للزيارة بسلسلة من التصريحات على لسان وزير خارجيتها أفيجدور ليبرمان أطاح فيها بجميع الاتفاقيات والتفاهمات الخاصة بالقضية الفلسطينية بدءا باتفاقات أوسلو ثم مؤتمر أنابوليس ومسيرة المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، رافضا فكرة الدولتين والمبادرة العربية وإزالة المستوطنات أو حق العودة للفلسطينيين أو المفاوضات مع سوريا حول الجولان وعقد اتفاق للسلام. وقد يرى بعض المتعمقين فى أمور السياسة أن التصريحات العلنية للسياسيين لا تمثل موقفا نهائيا مهما بلغت المغالاة فيها، والمهم هو ما يطرحونه على طاولة المفاوضات وما قد تحمله من تنازلات متبادلة وتغير فى المواقف لا تكشف عنه التصريحات المسبقة. وقبل أن يخرج علينا المحللون السياسيون المعتمدون والصحف القومية الأمنية دائما بما يوحى بأن المفاوضات مع نتنياهو قد خلصت إلى بوادرإيجابية مشجعة، وتفاهمات بناءة وإسهامات تخدم قضية السلام، مما يعد إنجازا باهرا للدبلوماسية المصرية، علينا وعلى صاحب الدعوة أن يسأل السيد نتنياهو بعض الأسئلة البديهية. أولا: ما هى الالتزامات التى تقبل إسرائيل كحل للصراع الإسرائيلى الفلسطينى، وإذا كانت المبادرة العربية من بينها خاصة أن حكومة أريل شارون السابقة أعلنت عن أربعة عشر تحفظا عليها تلغيها وتبطل كل ما ورد فيها. ثانيا: هل تمثل تصريحات ليبرمان السياسية الإسرائيلية لحل الصراع العربى الإسرائيلى؟ ونرجو هنا ألا يقبل الجانب المصرى الادعاء بأنها مجرد آراء أو اجتهادات شخصية لوزير الخارجية الإسرائيلى، فليس فى هذا السبيل آراء شخصية لرجل يمثل بحكم منصبه بنطوق السياسة الخارجية الإسرائيلية، مع عدم إغفال أن حزب ليبرمان إسرائيل بيتنا الذى فاز بخمسة عشر مقعدا فى الكنيست الإسرائيلى فى الانتخابات الأخيرة هو «النواة التى تسند الزير» أى الائتلاف الحزبى الذى تتشكل منه حكومة نتنياهو. ثالثا: هل تقبل حكومة نتنياهو مبدأ الأرض مقابل السلام الذى أقرته اتفاقات كامب ديفيد والمبادرة العربية الذى كان أساس معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية كحل للقضية الفلسطينية؟ وما هو موقف حكومة نتنياهو من قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة فى إطار حل الدولتين؟ رابعا: ما مدى استعداد إسرائيل لإزالة المستوطنات والجدار الإسرائيلى الفاصل تأسيسا على قرار مجلس الأمن رقم 242 الذى قبلت به إسرائيل والذى ينص على عد جواز الاستحواذ على الأرض بالقوة؟ خامسا: متى تفتح إسرائيل المعابر لدخول مواد ومعدات البناء لإعادة إعمار قطاع غزة الذى دمرته الحرب الإسرائيلية منذ أربعة أشهر الذى كاد ينسى الآن إلا من نذر يسير من المعونات الإنسانية؟ هذا جانب من القضايا المحورية التى يجب أن تتناولها أى محادثات مع إسرائيل وحكومتها اليمينية المتطرفة، ولا يجب أن تستبدل بأولويات واهية مثل ضرورة احتواء حماس أو القضاء على حزب الله أو تعبئة الدول العربية لمواجهة «الخطر الإيرانى» وهى الأجندة التى تفضلها إسرائيل. لا يجب أن يغيب عن النظر أن إسرائيل وسياساتها وسلوكها هى المهم الأكبر فى أولويات الأمن القومى المصرى، لا يدانيها خطر من حماس ولا ادعاء تهديد من حزب الله أو إيران.