كتب - هاني حجاج النص الدرامى هو سيد الموقف بلا منازع.. وهى مسألة جفَّ ريقنا ونحن نذكّر بها أعوامًا وراء أعوام الوصية الأولى تحية كبيرة إلى محمد أمين راضى، كاتب مسلسل «السبع وصايا»، الذى يُعرض الآن. النص الدرامى هو سيد الموقف بلا منازع، وهى مسألة جف ريقنا ونحن نذكّر بها أعواما وراء أعوام، وهم يقدمون القرابين لنجوم الصف الأول، وثلاثة أرباع ميزانية أى مسلسل، ثم يعطفون على المؤلف بأرقام مضحكة، فلماذا يهتم بكتابة نص محكم أنيق؟! منذ الانتعاشة الإنتاجية فى مجال دراما التليفزيون منذ عدة أعوام، بسبب الترويج الدعائى للإعلانات الاستهلاكية وطفرة الفضائيات التى تزامنت مع انقراض الإنتاج السينمائى، سادت موجة غير مستساغة تقبّلها الجميع على مضض، ما زالت رطوبتها الآسنة راسخة حتى الآن للأسف، وكلها لأعمال تدور فى فلك النجم الأوحد الرائع، الذى يجب أن يُسمَّى العمل نفسه باسم شخصيته فى المسلسل، ولولا بقية من حياء لوضع اسمه شخصيا! نفاق إنتاجى فى غير محلّه أضر بنجوم من العيار الثقيل، قبل أن يضر بالمستوى الفنى، وهكذا ترى الفنان الكبير نور الشريف يلعب دور المزواج الخطير عدة مرّات، قبل أن يتوقَّف ليسلّم الراية لمصطفى شعبان، ثم تجد يسرا وميرفت أمين وليلى علوى يلعبن دور الشهيدة جان دارك، وعادل إمام لا يفعل أى شىء سوى أن يغدق الكرم على كاتبه الخصوصى ليرى الجميع كم هو لامع يجامل رفاقه الأثرياء والوزراء، وتكون النتيجة مسلسلات باهتة سمجة أقرب إلى كاريكاتير الصحف الحكومية السخيف. ومن عجب أن واحدا من هؤلاء لا يجرؤ على الزعم أنه له الفضل على جيل الشباب من كُتاب الدراما، بل العكس هو الصحيح، إذ ظلت الدوائر مغلقة على الأقلام المأجورة المأمورة الجافة مع تهميش صريح لأى تجديد على مستوى النص. فى وقت ما ترهلت الدراما التليفزيونية، وكادت تموت بالسكتة من فرط توغلها فى مستنقع المواضيع المكررة من طراز: الزواج العرفى ومتاعب الزوجة الثانية (انت خايف من مراتك، لكن أنا من حقى أمشى معاك فى الشارع قدام الناس كلها)، ممثلات بلغن من الكبر عتيا لكنهن يعشن فى دور المراهقة المدللة (والله عال يا سى بابى!)، المليونير المأزوم لأنه يطمح لحمام سباحة فى الصالون (أنا معايا مستندات وأوراق ممكن توديك فى ستين داهية!). راضى من مواليد الثمانينيات، وهو جيل أحب الفن وتعلّم أساسيات الكتابة بنفسه، وتربّى على أعمال الكبار فى العصر الذهبى للدراما دون أن يهتم هؤلاء الأساتذة باحتضانهم فعليا، جيل الشباب الذى علّم نفسه بنفسه فتابع «ليالى الحلمية» بشغف، وقرأ كل ما كتبه نبيل فاروق ودار رأسه بتحولات اجتماعية وسياسية واقتصادية غير مسبوقة. الوصية الثانية موضوع مسلسل «السبع وصايا» يتلخّص فى اجتماع سبعة أشقاء لقتل والدهم طمعا فى إرث مهول. خطة تفشل فيضطرون إلى الفرار وتتفرق بهم السُبل فى جهات مختلفة، لتبدأ مع كل منهم حكاية عجيبة. دراما إنسانية فى إطار صوفى بحبكة بوليسية، نفس حبكة مسلسل راضى السابق، (نيران صديقة) الأكثر متانة من «السبع وصايا»، والتى تعتمد على عنصرى الترقّب والتشويق، على حساب عمق مناقشته للقضايا الإنسانية المطروحة، كسينما هتشكوك، ومشكلة هذا النوع من الدراما أنك لن تفهم أى شىء إذا أفلتت منك الحلقة الأولى، وأنك لن تهتم بمشاهدة المسلسل مرة أخرى عندما تنكشف العقدة وتهل لحظة التنوير. بخلاف دراما أسامة أنور عكاشة التى تشترك فيها جميع العناصر بما فيها التعقيد البوليسى لخدمة قضية واضحة تجعلك تكتشف فيها وفى نفسك الجديد كل مرة. بالطبع لا يمكن نصح الكاتب بأسلوب معين أو نملى عليه ماذا يكتب وكيف يكتبه، لكن النصيحة التى لا بد منها هى أن يهتم بمشروعه الدرامى. لقد وضع قدميه على أرض صلبة، وعليه أن يكون صاحب رؤية شاملة وصوت قوى محدد المعالم. وهى مسألة مقدور عليها بالنسبة لشاب ذكى جدا وموهوب، مثل محمد أمين راضى، يشهد بذلك ابتعاده عن جو نيران صديقة وشق طريقه فى أجواء جديدة، على عكس زملائه الذين ما زالوا يستثمرون نجاح مسلسلاتهم بالموسم السابق، فجاءت كلها تحمل تيمة «مَن فعلها؟» وسط أجواء المسلسلات الأجنبية المكررة، حيث الكل متواطئ والبطل يطارده الجميع والزوجة متآمرة، وهناك شخص ما يعرف كل شىء إلخ. الوصية الثالثة ظهرت عدة تأويلات للسيناريو، أسخفها أن هؤلاء هم أبناء الجبلاوى فى رواية محفوظ الشهيرة، لكن مأساة الإنسان التائه مطروحة منذ نشأة الدراما نفسها. وأكثرها وجاهة هو أن الأب يشير إلى مبارك والأبناء هم شعبه التائه الحائر فى كل صوب بعد ثورة للقضاء عليه، لكنها لم تحقق ما يحلمون به (واللى مالوش كبير يشترى له كبير)، وهو رأى غالبا سينكره المؤلف الذى لا ننتظر منه بالطبع أى تفسير: على النص دائما أن يفسر نفسه بنفسه. لا تجهد تفكيرك فى البحث عن دلالة رمزية مجردة فى «السبع وصايا»، لكن المؤلف بالتأكيد لم يقدم نصّه فى ما يعرفه أنصاف الموهوبين (بالحالة). الخط البوليسى موجود، والإطار الروحانى كذلك، وكلاهما ليس بالجديد على ذهن المتلقى، ويسهل أن يشتبكا بالوجدان فى الحال. راضى شاب مثقف وسواء أقحم توجّهه الأيديولوجى بقصد أو أخفاه بعناية فى ثنايا السيناريو أو حتى تسلل إلى روح العمل من عقله الباطن، فلا يمكنه أن يفلت من هيمنة نظرية موت الأب على النص المكتوب، لا لأن دراسة هذه النظرية سوف تفك شفرة كثير من المعروض، ولكن لأن الاهتمام بها كان سيجعل قيمة النص أكبر، وسيجعل بناءه أكثر صلابة وعمقا. موت الأب نظرية سياسية تاريخية يعرفها كل نظام، خرجت من رحم عقدة أوديب، حيث قتل ملك الشطرنج يعنى الفوز ونهاية الدور. المسألة التى وضعها نيتشه فى إطار إلحادى وجودى. اقتلوا الرب وتحرروا من الشعور بالذنب! وفى ما بعد سوف يتحدث الأستاذ اللاهوتى الكبير بارت عن نظرية موت الأديب، فالمكتوب لا ينتمى بالكامل إلى الكاتب، لكن هذا الأخير وسيلة لتقديم ميراث وعصارة فكر الأقدمين. راضى يستعيد خلفيته الثقافية هنا بعناية فيعتمد على الموروث الفنى والأدبى عدة مرات: دلالة رقم سبعة الروحانية فى الإسلام والخطايا السبع فى الإنجيل، رواية الجريمة والعقاب لديستوفسكى (صاحبة المنزل الشمطاء البخيلة)، رواية الإخوة كرامازوف لنفس المؤلف (موت الأب وفكرة اللا رب وتفرّق الأبناء)، أجواء قصص إدجار آلان بو والتراث الشعبى لجريمة ريا وسكينة فى القتل والدفن تحت البلاط والقطط السوداء والجثث العائدة، قصة مُنصف المتورّط بين قوتين عظميين ينشد الفرار بعنقه ويطمع فى غنائم من مال ونساء، فهو فى مأزق بين شحاتة وشقيق شحاتة الذى يتفق معه على خطف بنت عم شقيق شحاتة! (وهى نفس حبكة مسلسل إيزل التركى وفيلم lucky number slevin). الوصية الرابعة المؤلف خسر جمهوره فى مدينة السويس، لأنه جعلها مرتعا للنسوة المتهتكات. بالطبع تحدث الخطيئة فى أى مكان والسويس ليست مهبط الوحى، ونحن لا نحاسب المؤلف إلا على دقة ما يكتبه، لذلك لنا كل الحق فى الإشارة إلى أنه وهو يعنى بتفاصيل المكان الذى يعيش فيه الممثل محمد شاهين، وكلها تشير إلى الجانب الساحلى (المشاهد كلها عند منطقة الفيلات عند البحر، ما دمت سمعت صوت الغربان فى الخلفية، هذا لا يحدث إلا فى السويس، المنطقة المتاخمة لميناء بورتوفيق غالبا، فضلا عن كلامه عن شارع المدينةالمنورة، بل إنه لجأ فى الأساس إلى مسجد سيدى الغريب)، والكل هناك يعرف أن السويس كلها، وهذه المنطقة بالتحديد بمثابة أسرة كبيرة، قد تنحرف إحدى فتياتها، لكن المستحيل أن تدار بها شبكات دعارة نشيطة ويمرح فيها القوادون على هذا النحو. بالمناسبة المؤلف من مواليد السويس (وهو عذر أقبح من ذنب)، هذه أصغر المدن المذكورة فى المسلسل من حيث كثافتها السكانية، لا تدفعنا نخوة الانتماء هنا لكننا نسألك التدقيق. وبما أننا بلديات يا أخ راضى دعنى أسألك: لماذا يتصل الممثل محمد شاهين بقسم الأربعين للتبليغ عن النشاط الماجن وكل الإحداثيات سالفة الذكر تجعل قسم السويس هو الأصح؟ هناك ملاحظات أخرى: بعد القبض على القوّادة، كيف تعود إلى ممارسة البغاء فى ذات الشقة المشبوهة بهذه البساطة؟ هل تتوحّش القطط الصغيرة بسبب رائحة السمك لدرجة أنها تقتل اللص العتيد فى ثوانٍ؟ لماذا تورّط زوجة تاجر الأخشاب الكبير نفسها فى الحصول على الصوفة من رجل مجهول ليس فوق مستوى الشبهات لترتزق من جاراتها فى مدينة صغيرة، ألم يكن الأكثر منطقية أن تنجذب نحوه فتراوده عن نفسه؟ الوصية الخامسة المخرج خالد مرعى نشهد له بالكفاءة والإتقان، ويكفى أنه استطاع إخراج هذا العمل المكثف بهذه الإمكانيات (رغم تحمس المنتج طارق الجناينى والشروق)، مرعى هو المونتير الموهوب الذى عالج فيلمى «أيام السادات» و«بحب السيما» ببراعة، وقدّم هنا واقعية سحرية مصرية أصيلة خالصة دون إملال أو جهامة، ويكفى أن تشاهد حدائق المنزل الصعيدى الذى عاش فيه منصف، وجوف المخزن العملاق الذى يحيا فيه حماتّو. ونشير هنا إلى بعض الهنّات: المعمل المرتجل لتحضير التركيبة الخاصة بأيتن عامر، سوف يلاحظ أى طالب علوم أنه غير عملى بالمرة (انظر إلى هيئة الأوتوكلاف فى الركن الأيسر). ظهور الفتات الذى وضعوه على جثة صاحبة البيت (إنعام سالوسة)، لنرى القطط كأنها تحاول نبش الكفن (القطط تنفر من رائحة الجيف). رقصة سوسن بدر على أنغام غربية (أعتقد أنه الفالس الثانى لديمترى شوستاكوفيتش) كانت فرصة لتقديم مشهد حافل بالدلالات، لكن الفرصة ضاعت بين سيناريو لم يعن بالمقصود تماما، وإخراج لم يهتم بربط الموقف المستجد بما سبق، ومونتاج دمج مقاطع من الجديد فى حياة الإخوة، متجاهلا تصاعد النغمة وتسارع الإيقاع، هكذا صار المشهد شاذا مبتورا أظهر صناع العمل مولعين بالغرابة فى حد ذاتها، وكأن الممثلة ترقص فى ضريح يوسف شاهين لا سيد نفيسة! الوصية السادسة أحيانا يجب على الطاهى الماهر أن ينتبه إلى مقادير وجبته، فقد تجذب التوابل الفاخرة الاهتمام أكثر من الطبخة نفسها! بالطبع ما كان يتوقع المخرج أو المؤلف أن تكون الابتهالات الصوفية هى العنصر الأبرز فى العمل كله. شكر خاص لجيتار هشام نزيه صاحب الموسيقى المدهشة، ورغم أن فكرة المزج بين الحضرات والتواشيح والروك الغربى أو الفلامنكو مطروقة، لكنها لم تقع من قبل بين يدى فنان حقيقى يعرف ما يفعله (ولك أن تعرف أن البعض كان ينتظر نهاية كل حلقة من مسلسل شربات لوز ليسمع موسيقى التتر الأخير)، ويكسب الجمهور إلقاء الضوء على كنزنا المنسى المهجور مما كتب ابن عربى والرومى والنفرى، وكنت أتمنى أن تتسلل هذه الروح الشابة الرشيقة التى كست موسيقى وألوان ومونتاج التتر إلى نسيج الحلقات نفسها! ما أخشاه هو أن تصير هذه هى الموضة فى المستقبل القريب، كالعادة نحن نحب النحت والتقليد و(اللى تغلب به العب به)، كل الأفلام يجب أن تضحكك، كل الروايات يجب أن يكون فيها حشيش الفيل الأزرق، كل الأغانى مهرجانات. هذا الأداء واللحن المتناسق رائع هنا، لأنه متقن ومناسب للعمل الدرامى، فلا تصدعوا رؤوسنا بشغل دراويش ثقيل الظل يا سادة. الوصية السابعة يحسب للنص كذلك عنايته بالبطولة الجماعية وتوزيع الأدوار بعدل وأمانة: رانيا يوسف رائعة مدهشة، ننظر إليها ونتساءل، أين كانت هذه الملامح الصافية من قبل وكيف زجوا بها فى أدوار المرأة اللعوب خاطفة الرجال؟ (لا يستثنى من ذلك دور نور توفيق الذى لعبته فى «نيران صديقة» لنفس المؤلف والمخرج، القوالب تسيطر) وليس ذنبها أننا لم نفهم لماذا صارت هادئة وديعة ساذجة فجأة بين جدران السجن! أيتن عامر يخدمها الدور كثيرا ويبعدها عن دوامة النسوة اللاتى يكدن لبعضهن والجلاليب المغرية وما إلى ذلك. محمد شاهين ممثل جيد جدا وحسنا فعل عندما خرج بسرعة من مسلسلات السيت كوم التافهة. من حسن الحظ أن ملامح صبرى فواز العبقرية سدت ثغرات الحوار الشحيح فى دوره، أداؤه مميز لدرجة أن المشاهد رفع له القبعة هنا وتجاهل لعبه لدور شخصية هيكل فى مسلسل «صديق العمر». دور منصف مناسب جدا لهيثم أحمد زكى والرجل لم يقصّر فى أدائه أبدا. شيرين الطحان وابتهال الصريطى أجادتا اللهجة الصعيدية كأفضل ما يكون (وقد مر بنا عهد طويل نشاهد الممثل يقلد الصعيدى الذى يراه فى السينما لا الواقع). ظهور قصير ومميز جدا لفنانة موهوبة هى سلمى الديب. أداء أحمد فؤاد سليم رصين ويؤدى الغرض كالعادة، ولم أفهم اللمسة الكوميدية بلا مبرر فى أداء سوسن بدر. ويبقى الأداء الأجمل والأروع لهنا شيحة فى دور إم إم، وكذلك قصتها مع زوجها فى المسلسل هى الأفضل والأقرب للقلب والروح.