الروائى المصرى الكبير محمد ناجى، أثرَى المكتبة العربية بعديد من الروايات المهمة، منها: الأفندى، والعايقة بنت الزين، ولحن الصباح، ومقامات عربية، وليلة سفر، وخافية قمر، وغيرها.. ويعد ناجى من أهم كتاب السرد المعاصرين، حيث تمتاز أعماله بخصوصية عوالمها التى لا تشبه أى كتابات أخرى، ويأتى اهتمامه باللغة واضحا فى أعماله، والتى تعد ملمحا أساسيا ولافتا، حيث تمتاز بالعذوبة والشعرية والرشاقة، كما يختار أبطال رواياته من الطبقات المتوسطة والمهمشة والمطحونة، راصدا أحلامهم وطموحاتهم، وصراعهم القدرى مع الحياة وآلامها، فى محاولة للنجاة والانتصار. «التحرير» يسعدها أن تنشر رواية محمد ناجى الأخيرة «قيس ونيللى»، وتقدمها للقراء على مدى عشر حلقات. فى قلب القاهرة، وفى شارع شريف أمام فرع البنك الأهلى الشهير هناك، يلتقى «قيس» القادم من أقاصى الصعيد الفتاة الجميلة «نيللى»، صعيدية أيضا من الفيوم، رآها «قيس» وهى تترجل من التاكسى أمام البنك، مسحها بنظراته المختلسة، وقرر رغما عنه الانصياع لرغبته فى التعرف على الفتاة ذات التايور الأزرق، والفراء الأسود، ملفوفة الخطى والقوام والساق، رفرف قلب الفتى خلف الفتاة على سلم البنك، الحب من أول نظرة ليس «نكتة» ولا «دعابة» فى كل الأحوال. يتعارفان وهما فى البنك ويغادرانه وقد تبادلا أرقام التليفونات، تعيش «نيللى» مع عمها الفنان بكرى نافع الشهير ب«بيكو»، فى أحد الأبراج العالية المطلة على النيل فى شارع البحر الأعظم. صف حملت عربات الروبابيكيا التايور الأزرق مع ملابس أخرى سواريه وماتينيه إلى وكالة البلح، ومن هناك اشترته نيللى بثلاثين جنيها، واشترى بكرى لنفسه بالطو، وكوفيّة من التريكو لا يستطيع أحد أن يحسم إن كانت رجالية أم نسائية. حين نزل التايور من على شماعة الروبابيكيا كان شيئا زريا، شيئا مختلفا تماما عن ذلك التايور الذى تألّق بين أضواء المسارح والبلاتوهات. بقعة حمراء على الفراء، وفتق يهبط بأصابع اليد من الجيب إلى داخل البطانة، أما تيكت الماركة الفرنسية فكان مشبوكا بغرزة واحدة. أمضت نيللى ليلة كاملة فى ترميم التايور، استخدمت كل الحيل المعروفة فى إزالة بقعة الروج، وأعادت تثبيت التيكت، وعالجت فتوق البطانة والجيب. عثرت فى قاع البطانة على عملة فضية مكتوب على احد وجهيها: «سلطان البرين وخاقان البحرين السلطان ابن السلطان»، وعلى الوجه الآخر كتابة زخرفية على شكل طائر لم تستطع أن تفك طلاسمها ومكتوب تحتها: «ضرب فى قسطنطينية 1223». وجدت أيضا صورة شخصية ملونة؛ شاب بشفاه غليظة وبشرة بيضاء وشعر ذهبى. أشفقت على التايور من خشونة المسمار المعلق خلف الباب، فاختلست له شماعة من دولاب بكرى، واختارت بالتحديد الشماعة الخشبية المعلّق عليها البالطو. كان ذلك سببا لأول مشاجرة حقيقية بينهما. الدولاب فى حالة فوضى أصلا، لكن سقوط البالطو كان لمسة إضافية شحنت بكرى بغضب مسموم، خمّن ما حدث بسرعة لكنه لم يواجهها بنفس السرعة، ارتجل تمثيلية بوليسية مملّة عذّبها بها حتى مطلع الفجر. بدأ السيناريو بمشهد اعتادته منه بعد ذلك حين يستحضر العواصف. نظر إليها طويلا وهو واقف بالفانلة والشورت أمام الدولاب المفتوح، يد فى وسطه، والأخرى تمشط شعره الطويل. ثم انحنى ينكش قاع الدولاب والأدراج، ينكش وينظر إليها. ماذا تفعل يا بيكو؟ جاوبها أربع مرات بنظرات متحفّزة صامتة، وبعد الإعادة الخامسة للسؤال هبّت رياحُ غضبه: أبحث عن أشياء كانت هنا. اقتربت، وحاولت أن تساعده، لكنه دفعها بظهر يده وواصل النَكْش: ابعدى. دفعة خشنة، ونظرة مستريبة كارهة. بيكو حبيبي؛ ماذا جرى؟ عدَّد على أصابعه: فلوس، تحف، أوراق، وأشياء غيرها، حتى شماعة البالطو اختفت. فى خناقاته الطويلة المملة ينتهى الأمر عادة بتخلى بكرى عن كل الاتهامات التى بدأ بها ليلته، لكنه فى تلك الليلة لم يتخل عن الشماعة، كرر الاتهام أكثر من مرة فى صيغة سؤال حاسم: ألم تعلّقى البالطو عليها بنفسك؟ وهى اعترفت: بيكو حبيبى، الشماعة عندى، المهم الأشياء الأخرى؛ هل أنت متأكد؟ حين أدركت أن المسألة انحصرت فى الشماعة احتجّت: كل ذلك من أجل شماعة؟!. احتجّ على فكرة ازدراء البالطو وتفضيل التايور عليه، وأنذرها: لو تكرر ذلك مرة أخرى سأطردك، لم افتح لك بيتى لتسرقينى. كانت تصغى لصوت المطر فى الخارج، وتبكى: لم أسرقها يا بيكو، كنت فرحة بالتايور، فرحت به جدا فعلقته على الشماعة، ماذا جرى؟! ■■■ زمان كان تهديده بالطرد يخيفها، الآن لا تهتم؛ أصبحت تعرف طريقها فى الليل، تلبس هدومها وتشتمه كما يشتمها: باى باى يا معفِّن. اعتادت ذلك الآن، وهو أيضا اعتاد رحيلها المفاجئ. تكرر المشهد مرات لا يستطيع أن يحصيها. أحيانا لا تنتظر مبررا، مجرد رنّة موبايل؛ تلبس وتقبِّل خده: باى بيكو. يهز رجليه فى مجلسه الدائم فوق السرير، وينذرها: إذا تأخرت لا تعودى، ابحثى عن مكان آخر. أكثر من مرة عاندت واختبرت تحذيره؛ تغيب ليله أو ليلتين، ويبدأ هو فى مطاردتها بالموبايل. يعاتبها على نكران الجميل، ويذكِّرها بما يقدمه لها؛ المأوى والفلوس والأمان، ويحذِّرها: لابد أن تتحملينى، افعلى ذلك لأجل نفسك، خارج هذا البيت ستضيعين. تعود فى النهاية، تفاجئه ذات صباح أو مساء، تحتضنه بحنان وتقبّل خده: وحشتنى يا معفِّن. لا تغضب الكلمة بكرى، لكنه يتصنع الغضب أحيانا. لغضبه الآن اللون الوردى لشهوة قديمة. يضحك وهو يعيد الحكايات على أصحابه فى سهراتهم المتباعدة، التى تمتد أحيانا حتى الفجر: الآن أصبحت تشتمنى، اعتادت ذلك: «صباح الخير يا معفِّن، باى باى يا معفِّن». يضحكون أيضا وهم يتأملون المكان؛ عناكب وخيوط غبار، وبقع رماد وطعام وألوان. يتأملون ويضحكون؛ الكلمة لا تخلو من معنى. دارت عيون أبو شَنَبْ فى المكان، ثم طأطأ رأسه وأمسك لسانه. بلع العبارة التى تثير غضب بكرى دائما وكتمها مع أنفاس الدخان، لكن بكرى نكش أفكاره وهو يهز رجليه فى مجلسه الدائم فوق السرير، واستنطقه: قلها يا بغل: «معها حق»، قلها كما تقولها كل مرة. لم يجاوبه أبو شنب على الفور؛ انتظر حتى صفَّى صدره من الدخان، وحاول أن يشرح ما لم يقله: لم أفتح فمى، لكن لسانك نطق بالحق يا باشا. صح؛ الحق معها فى هذه المسألة، المكان يحتاج نظافة. ثم دار بعينيه على وجوه الجالسين مستفتيا: صح يا باشوات؟ نفخ أبو شنب الجمر، وانتظر أن يُنجده أى واحد من الثلاثة؛ اللواء فادى، والمستشار نصيف، والنائب رضوان. كانوا موزعين على فوتيهات عتيقة متنافرة، كل واحد طراز مختلف، وأبو شنب على الأرض بين أرجل الجميع. تحته سجادة إيرانية مهترئة عليها بقايا رسوم فرسان يطاردون غزلانا، وفوقه مروحة سقف توقفت عن الدوران منذ سنين. فى خلفية المشهد أمام الشرفة الواسعة؛ حاملٌ خشبى عليه لوحة لم تكتمل، فيها أخلاط هياكل عظمية. وقرب الحامل طاولة صغيرة وعلب ألوان. تجاهل الثلاثة سؤال أبو شنب بابتسامات محايدة، وتركوه وحده فى مواجهة بكرى مترقبين الكلام المعاد. هى لا تقصد المكان يا بغل، وإنما تشتمنى أنا، تبصُّ فى عينى وتشتم. بعد كل ما قدمتُ لها تقول لي: «يا معفِّن»، ثم تقول أنت: «معها حق». تشاغل أبو شنب بتنظيف الجوزة وتعميرها، وترك بكرى يكمل دورة الأسطوانة المعروفة؛ بنات قبلها وبنات بعدها وهى الوحيدة التى سمح لها بالسكن معه، وأعطاها المفتاح. ماذا تريد أكثر من ذلك؟!.. لو طردتها إلى الشارع الذى جاءت منه لضاعت بين أقسام البوليس وأوكار القوَّادين. ولام نفسه على تحمّلها: لا أدرى لماذا أصبر عليها، إعلان صغير يجلب لى عشرات البنات، وكما جاءت هى تأتى غيرها، وربما أجمل وأرخص. يختلق بكرى السيناريوهات ويندمج فى الدور لكنه لا يثور بجد، يضبط الأداء عند حد يمكنه من الانتقال من الغضب إلى الضحك. هى جلسة سمر فى النهاية، مساحات غامضة من «الغضب الضاحك» أو «الضحك الغاضب». سمر يرهق الأصحاب إلى درجة تساعدهم على نسيان الهموم. ■■■ الليلة كان مزاجه مختلفا. حرَمَه الشتاء من مجىء أصحابه، وشحنه إيقاع المطر بحنين غامض جيَّاش. جلس وحيدا أمام اللوحة التى لم تكتمل، يتأمل المساحات الخالية، ويحاول تخمين الألوان. يفكر أحيانا فى ألوان لا يراها غيره؛ «الأزرق المخنوق»، «الأخضر المسموم»، «الأحمر الحيران». (الحلقة الثالثة العدد القادم)