لم يكتب أستاذنا عن الريف المصرى، لأنه لم يخبر تفاصيل الحياة الريفية، بما يسمح له بالكتابة عنها، لكنه فى النصف الثانى من السبعينيات كتب رواية تدور أحداثها فى قرية مصرية، ولم ينشرها! وهى رواية «ما وراء العشق»، إذ لم يرض عنها بعد أن أكملها، فقد كان من عادته بعد أن ينتهى من عمله الأدبى لا ينشره مباشرة، وإنما يتركه لفترة من الزمن، ثم يعيد قراءته ليراه من جديد، قبل أن يدفع به إلى المطبعة. لكن ما حدث مع هذه الرواية يعد حدثا إبداعيا فريدا، فمن العجيب أن يكتب محفوظ رواية -بعد كل ما كتبه من روايات رائعة- ولا تعجبه! وهذه حالة مثيرة من حالات الإبداع الروائى، إذ يمكن أن يكتب المؤلف قصة قصيرة، ولا تعجبه، لكن أن يكتب رواية كاملة، على مدى شهور طويلة من البحث والتفكير والعمل، ثم لا تعجبه فى النهاية، فهذا لم يحدث فى حياة محفوظ الإبداعية سوى مرة واحدة فقط. بالإضافة إلى أن الأستاذ لم يترك الرواية تضيع تماما، وإنما استغل فكرتها الجوهرية كموضوع لقصته البديعة «أهل الهوى». ثم أعطى «ما وراء العشق» لصديق له يعمل مخرجا سينمائيا، لكى يستفيد منها كموضوع لأحد أفلامه، لكن هذا المخرج سلمها بعد ذلك بسنوات لناقد أدبى نشرها فى كتاب، دون أن يحصل على إذن صاحب الرواية! وإذا عدنا إلى بدايات محفوظ نجده قد وضع خطة لكتابة تاريخ مصر من خلال مجموعة من الروايات! وهى خطة طموحة جدا، فقد خطط لمرحلة مصر الفرعونية فى نحو أربعين رواية! فكم رواية كان يحتاجها تاريخ مصر العريق؟! وبدأ الأستاذ فعلا فى كتابة ثلاث روايات فرعونية، ثم جذبته الرواية الواقعية، إذ اكتشف أنه يريد أن يعبر عن أشياء كثيرة فى صميم الواقع، ولن تتيح له الرواية المرتبطة بالتاريخ المساحة الكافية للتعبير عما يعتمل بداخله من صراعات ورؤى وأفكار. وثمة نقد وجه إلى رواياته الأولى، وهو أنها روايات فرعونية كتبت بلغة قرآنية! وقد تناقشت مع الأستاذ فى هذا الرأى النقدى، فأشار إلى قضية التعامل مع أساليب اللغة ومفرداتها، ومشكلات تطويع اللغة المستقرة عبر قرون، لتتجاوب مع متطلبات فنون أدبية حديثة كالفن الروائى أو القصصى. وهنا لا بد أن أسجل إعجابى الخاص، وتقديرى العميق للغة محفوظ، فقد استطاع أن يطور أسلوبه الأدبى تطويرا هائلا، إلى درجة أن لغة الأستاذ فى كل عمل من أعماله تكاد تختلف عن لغته فى الأعمال السابقة أو اللاحقة، فمن ينظر بدقة فى لغة الروايات الفرعونية ويقارنها مثلا بلغة الثلاثية، سيجد فروقا هائلة فى أساليب الصياغة الروائية، ثم إذا قارن الثلاثية بعمل جاء بعدها مثل «اللص والكلاب» سيجد أيضا فروقا هائلة، وهكذا حتى أعماله الأخيرة، كعمله الفذ «أصداء السيرة الذاتية»، أو آخر إبداعاته -الذى لم يلق ما يستحقه من نقد- «أحلام فترة النقاهة».