لا يكاد أحد فى العالم الذى اعتدناه يقول إن التحرش مقبول. هذه الإجابة «الصح»، يتلقاها جيل من جيل. الآن، حاولى أن تفصصى مضمون هذا الاعتراض فى مجتمعنا. ستجدين، للأسف، أن المجتمع يرفض بالفعل التحرش، لكن بشروط كثيييييييرة يجب أن تستوفيها «المجنى عليها». بعبارة أخرى: «الشك يفسر لصالح المتحرِّش». سيبدأ المتحدث إذن حديثه رافضا التحرش، لكنه سيثير «تساؤلات». لو تخيلنا أن حادثة التحرش حدثت فى العيد، بجوار سينما ريفولى، ستجدين أسئلة من نوعية: «مش البنات دى عارفة إنه فيه تحرش، طيب إيه اللى موديها هناك ليلة العيد؟» وستسمعين تعليقا من نوعية: «ما هو كمان البنات بقت بتلبس لبس أجارك الله، وبتمشى تضحك وتتمرقع فى الشارع». آخر سيدين التحرش بجميع أشكاله، وبأوضح العبارات، لكنه سيضيف: «بس الحقيقة يا أخى، البنت مكانها البيت، غير كده بتتبهدل». وهذا يعنى أن قائمة الشك تبدأ من ملابسها، قبل سنوات كان المطلوب الحشمة، صار الحجاب، ثم نوعا معينا من الحجاب. ثم التوقيت والمكان، قبل سنوات كان مطلوبا منها الالتزام بمواعيد معينة للخروج يتوافر فيها «الشهم» المعين، وبالتالى كان مطلوبا منها الالتزام بأماكن معينة تتجنب المناطق النائية. الآن صار مطلوبا منها تجنب «وسط البلد» فى ليلة العيد، وفى ظل وجود آلاف من «ذوى الشهامة»، ويا حبذا لو ظلت فى البيت. ثم السلوك، ليس سلوكها فحسب، إذ يجب أيضا أن تتجنب رفقة البنات اللاتى يمزحن بصوت عالٍ ويلفتن الانتباه. ويجب ويجب ويجب. ولن تتوقف المطالبات أبدا، ولن تصل المرأة إلى حد الأمان الكامل إلا لو وئدت. ووالله، لو ظلت كل النساء فى البيت فلن يتوقف التحرش، إنما سيتخذ صورا أخرى، وسيجد له الأشاوس مبررات جديدة. هل هذا المجتمع يفهم كلمة تحرش؟ هل يعرف ما «المركب البطّال» فى كلمة تحرش؟ التحرش، ببساطة، هو تجاوز الحيز الخاص بشخص، جسديا أو نفسيا أو لفظيا، خارج حدود ما يسمح لك به، وخارج حدود ما توجبه الحالة الراهنة. كتبت من قبل منتقدا التصريحات المخزية لسياسيين وإسلامجيين بعد حادثة سحل فتاة فى قصر العينى، لكن الحقيقة أن هؤلاء ليسوا أكثر من انعكاس لمجتمعنا، والذى لا أشترى بتعريفة ادعاءاته عن الأخلاق الحميدة، بل أراها، كأمور أخرى كثيرة، مفهوما آخر مفرغا من معناه الحقيقى. هل حاول المجتمع بجدية أن يضع حدا لحوادث التحرش فى وسط البلد، ليلة العيد؟ هل انزعجت الدولة من «تشويه سمعة مصر» وقد صار التحذير من التحرش فقرة فى كل دليل سياحى؟ أبدا. الآن تخيل لو أن شابا وفتاة يسيران فى نفس المنطقة، وأن الشاب لمس الفتاة، والفتاة لمست الشاب لمسات «حميمة»، لكنهما هنا يفعلانها بإرادتهما الحرة. ماذا سيكون رد فعل المجتمع من حولهما؟ سيتدخل بلا شك، لأن ما يفعلانه حرام أو خطأ أو أو أو... حتى لو فعلا ذلك فى مكان خاص، بعيدا عن العيون. الآن فكرى أن المتحرش فعل -«لمسا»- ما فعله الشاب والفتاة، لكن فى حالة المتحرش يضاف إليه «سيئات» التحرش النفسى والإهانة والاعتداء على حرمة الحياة الخاصة والإجبار. اسألى نفسك: لماذا إذن يتدخل المجتمع فى حالة الشاب والفتاة ولا يتدخل فى حالة المتحرشين؟ سأقول لك الحقيقة المرة: لأن السلطة عودت المجتمع على الإذعان، فصار فى لا وعيه أن إجبار الآخرين على الإذعان شىء إيجابى، سلطة لا يؤتاها المرء إلا إن كان ذا حظ أو ذا حيثية، حين يصير ضابط شرطة، حين يصير أبا، حين يصير مديرا، حين يصير رجل دين، إلخ. أعرف أنه يقول غير ذلك علنا، لكنه منافق. فهو يتدخل فى حالة الفتى والفتاة، لأنه يستطيع أن يجبرهما على الإذعان، ويجبن فى حالة التحرش لأن جيوش المتحرشين «هتديه على عينه» ولن يقدر عليها، فيلجأ إلى لوم الفتاة، وما يبحث فى الحقيقة إلا عن تبرير لنفسه. تماما كما يجبن شارع بأسره عن الوقوف أمام أمين شرطة فيدعى أن أسلوبه هو الوحيد «اللى ينفع»، وكما تجبن أمة أن تقف فى وجه سلطة غاشمة، فتبحث لها عن «إنجازات». الاستبداد لن يستطيع أن يحكم لو لم يفسد أخلاق الناس لكى تشابه أخلاقه. هل رأيتم سلطة مستبدة تحكم شعبا لا يزال يتمتع بصفات الأحرار؟ مش ممكن!