يختار كل رئيس بديله، إما بشكل مباشر، وإما تدفع سياساته وممارساته إلى بديل بعينه. فى الجمهوريات شبه الوراثية التى يتولاها نظام شمولى يأتى الرئيس إما بترشيح من كان قبله، وإما باختيار الحزب الحاكم أو الهيئة المحتكرة للسلطة. فى مصر حكم نظام يوليو لأكثر من ستين عامًا بآليات متشابهة، الجمهورية التى أسسها الضباط الأحرار بعد أن أطاحوا بالملكية وغيّروا النظام الحاكم برمته برؤوسه وقياداته وأحزابه ونخبه وثقافته وانحيازاته، ظلت متماسكة وحاكمة، قد تتغير السياسات والانحيازات، لكن يبقى الملمح الرئيسى، نظام حكم يرتكز على ثقل ونفوذ وتأثير وضمانة القوات المسلحة، وعلى رأسه أحد أبناء المؤسسة العسكرية. اختار عبد الناصر السادات بعد سلسلة من التبديل والصعود والهبوط لرفاق السلاح، لكن كان السادات من داخل النظام، تولى موقعه بحكم الترتيب الهرمى فى هذا النظام، واختار السادات مبارك، وأمن وجود مبارك كنائب لحظة اغتيال السادات، استقرارًا سريعًا واستمرارًا لنظام يوليو بملامحه الأساسية، والأهم تجنيب البلاد صراعًا على السلطة. جاء الرئيسان التاليان لعبد الناصر وفق منهج فيه قدر كبير من الوصاية، واحتكار فهم المصلحة وتعزيز مفهوم الاستقرار. لكن مبارك لم يختر بديله، وإن كان خيّرنا بين بديلين، توريث لكن هذه المرة ليس لرفيق سلاح فى إطار يوليوى، وإنما توريث فى إطار عائلى لنجله، أو بين الإخوان كجماعة هى الأجهز لملء فراغ سقوط حكمه. قبل لحظة التخيير هذه مضت سنوات كسر فيها مبارك كل قيم جمهورية يوليو ومبادئها فى ما يخص الحفاظ على حد أدنى من العدالة الاجتماعية مقابل التفويض السياسى. ■ ■ ■ لكن هذا النظام الوصائى لم يعد يصلح فى عهد ما بعد الثورات والانفتاح السياسى ودساتير تداول السلطة، كان نظاما لم يمنح الناس حق التغيير ولم يخلق أمامهم البدائل الآمنة للتغيير، وبالتالى كانت كلفة التغيير فادحة، لأن البدائل الجاهزة المأمونة كانت غير متوفرة، وبما أننا نعود إلى صورة يراها البعض استعادة لدولة يوليو، النظام الراسخ على دعم الجيش، والرأس القادمة من صفوفه، هل سيكون مناسبًا استنساخ التجربة كاملة دون اعتبار لمتغيرات أو خلق للبدائل؟ ظل المبدأ المهمل فى مبادئ ثورة يوليو باستمرار هو مبدأ «إقامة حياة ديمقراطية سليمة» وما يعنيه إنشاء نظام سياسى قائم على حياة ديمقراطية سليمة أنك تخلق للناس بدائل آمنة للتغيير عبر فتح المجال وتسهيل عملية التنظيم لتكوين هذه البدائل من داخل النظام وفى إطار الدستور. يملك المواطن فى أوروبا والدول المتقدمة البدائل الآمنة للتغيير، حين يسأم رئيس أو يحب أن يعاقب حزبًا حاكمًا، أو يتخلى عن سياسة سائدة بعد تجربتها وثبوت فشلها، يستطيع أن يختار من بين هذه البدائل دون أن يكون باختياره يعرض استقرار الدولة للخطر أو يغير فى هويتها واعتباراتها الوطنية. لم يساعد مبارك المجتمع على خلق البدائل الآمنة تحت مظلة الدولة الوطنية، لأنه كان يفكر فى نفسه فقط، لذلك كانت فاتورة إزاحته باهظة، ونتيجتها أخطر على الدولة الوطنية وسياق التطور الطبيعى للمجتمع المصرى. وعندما تشاهد الرئيس المؤقت يوقع مع الرئيس المنتخب وثيقة تسليم وتسلم السلطة، فلا بد أن تفكر فى اللحظة التى سيسلم فيها السيسى السلطة، كيف ستكون ولمن؟ ليس المقصود لشخص من؟ لكن المقصود أنه وهو يعلم بحكم الدستور أن أقصى ما يمكن أن يقضيه فى السلطة 8 سنوات بعد اختبار انتخابى تال إذا سارت الأمور على ما يرام، فعليه أن يعمل على بناء نظام سياسى جديد يؤمن البدائل الآمنة التى تسمح بالتنافس والتغيير تحت مظلة وطنية دون مخاطر على شكل الدولة المرسوم فى الدستور، ولا يسمح باحتكار المستقبل أو الوصاية عليه. هذا رئيس فى مهمة انتقالية أشمل، والتنمية السياسية وبناء نظام التداول الآمن للسلطة بنفس أهمية التنمية الاقتصادية واستعادة عافية الدولة، هذا إن كان يفكر لوطنه، وليس لنفسه أو لجزء من هذا الوطن فقط.