1 - التوريث منذ ولاية محمد على افتقدت مصر أهم مقومات الدولة الحديثة التى أنشأها محمد على، وهى أن يحكم الشعب نفسه بنفسه وأن يختار حكامه وأن يكون قادراً على تغيير هؤلاء الحكام، فمنذ إنشاء الدولة العلوية كان الحكم فيها بالتوريث لأولاد محمد على ثم أحفاده، صحيح أن الأمر لم يتم بالتوريث فقط، فقد تدخلت القوى الدولية فى عصر إسماعيل لتغيير الموقف ثم تدخل الإنجليز فى مرحلة لاحقة لخلع الخديو واستبداله بآخر حفاظاً على مصالحهم ولكنه كان من نفس العائلة ولذا استمر توريث الحكم فى مصر عن طريق الحاكم والقوى الخارجية ولم يكن للشعب رأى فى اختيار الخديو أو السلطان أو الملك باختلاف المسميات حسب العصر، ولم يكن هذا الحاكم الذى ورث الحكم هو رمز للدولة كما هو الأمر فى ملوك شمال أوروبا ولكنه كان الحاكم الفعلى وصاحب الأمر والنهى، وصحيح أنه فى الفترة الليبرالية بعد ثورة 1919 وتطبيق دستور 1923 أصبحت للحكومة سلطة موازية، ولكن فى النهاية كان الوريث هو الذى يحكم ويقرر، فكان قرار الانفتاح على العالم هو قرار محمد على وإبراهيم باشا، وكان قرار الانغلاق داخل مصر هو قرار عباس الأول، ثم جاء سعيد ليقرر بعض الانفتاح بمشروع قناة السويس ثم كان الانفتاح الأكبر وبيع مصر بالكامل للأجانب هو قرار الخديو إسماعيل وفى جميع هذه المراحل لم يكن للشعب رأى فى أى شىء، كانت هناك بعض القوى الوطنية تناوش بعض الشىء ولكنها كانت فى وادٍ والشعب فى واد، حتى ثورة عرابى وثورة 1919 لم تؤديا إلى حكم الشعب لنفسه ولكنهما حققتا مكاسب جزئية طفيفة سرعان ما فقدها الشعب لصالح الوريث. وبنهاية الدولة العلوية وقيام ثورة 1952 بقيادة عبدالناصر الذى هو من أفراد الشعب والذى قاد ثورة اجتماعية إصلاحية وتعليمية وصناعية لصالح الشعب، لم يؤمن للحظة واحدة بحكم الشعب، فكل الحركات الشعبية تم إجهاضها بعنف شديد وحين كانت شعبية عبدالناصر فى أواخر الخمسينيات فى السماء وكان قادراً على كسب أى انتخابات دميقراطية باكتساح وبدون أى تزوير أصر على عدم إجراء انتخاب حر وقام بعمل استفتاءات صورية أخذ فيها مائة بالمائة من الأصوات، فحتى ابن الشعب وأكبر نصير له لم يوافق أبداً أن يشرك الشعب معه فى الحكم، وحين مرض عبدالناصر بعد كارثة 67 اختار أيضاً وريثاً له هو أنور السادات ولم يشرك الشعب فى الاختيار وهو أمر غريب فى نظام يدعى أنه جمهورى، وكان للسادات سياسة مغايرة وقرر أن يصبغ النظام بصبغة ديمقراطية صورية لتكون واجهة مناسبة للغرب الذى كان يرغب فى كسب وده، وكان فى داخله لا يؤمن بالشعب ولا حكم الشعب واختار أيضاً الخليفة بنفسه وبمواصفات خاصة تناسبه هو، أما إذا كان هذا الخليفة الذى سيرث الحكم يناسب مصر ومستقبلها أم لا يناسبها فهذا أمر لم يأخذه فى الاعتبار لأنه اختيار الرئيس بصفة شخصية. ولما كان كل من عبدالناصر والسادات زعامات سياسية صدامية لها أفكار كبيرة وتريد أن تحدث تغييرات ضخمة بغض النظر عن اختلافهما تماماً فقد انتهت حياتهما نسبياً بسرعة. وحين جاء الرئيس مبارك كخليفة للرئيس السادات كان شخصية مختلفة فهو هادئ ليست عنده أفكار كبيرة أو أحلام ضخمة وإنما كان يريد للمركب أن يسير بأقل الخسائر الممكنة ولا أهمية للمكاسب واستمر مبارك ثلاثة عقود لتسمح الظروف بأن يدور حديث عن توريث الحكم لنجله جمال بعد أن قام بتغيير الدستور لتبدو عملية التوريث سهلة وبسيطة وقانونية صورياً على الأقل. صحيح أن تطور الزمن أدى إلى حالة غضب عام بسبب التوريث ولكن الشعب المصرى الذى قبل التوريث عبر قرون من الزمان فى الدولة الحديثة يبدو أنه سوف يقبله فى القرن الواحد والعشرين بنفس الطريقة. وصحيح أيضاً أن العالم تغير حين كان فاروق ملكاً على مصر فلم تكن هناك دولة واحدة فى أفريقيا بها انتخابات حرة أو تداول للسلطة وكانت أمريكا الجنوبية مرتعاً للديكتاتوريات العسكرية وكانت شرق آسيا وأوروبا الشرقية ديكتاتوريات صريحة وكان التوريث فى هذه الدول أمراً طبيعياً، ولكن الآن أصبح التوريث محصوراً فقط فى المنطقة العربية واختفى من قاموس العالم، ولذا اضطر مروجوه إلى القيام بألعاب أكروباتية دستورية لوضع التوريث فى صورة شبه قانونية. الجديد فى الأمر أنه لا عبدالناصر ولا السادات طلبا موافقة أحد على اختيار وريثه، ولكن وضع مصر المتدنى خارج التاريخ تطلب أن يأخذ هؤلاء موافقة القوى الكبرى على الوريث. إذا أراد الشعب أن يحكم نفسه بنفسه فلابد أن يحارب بشدة ليحقق حريته وفى عالمنا الحديث لابد من وجود رغبة شعبية عارمة ومنظمة ومستعدة لدفع الثمن مع وجود قوى كبرى تشجع التغيير إلى الديمقراطية، وهذا ما حدث فى أوروبا الشرقية، أما فى مصر فلا الشعب يريد الكفاح من أجل الديمقراطية ولا العالم يرغب أن تصبح مصر ديمقراطية ولذا فإن التوريث سوف يستمر كما بدأ منذ زمان بعيد.