هل يسري التوريث الانتخابي في مصر؟ ما هو التوريث؟ التوريث هو نقل ما يتملك بعد وفاة المالك إلى ورثته، الذين تربطهم به علاقة العصب والنسب. والمقصود بالتوريث في الحالة المصرية –لدى عامة الناس وخاصتهم في الداخل والخارج- طوال السنوات الخمس الأخيرة هو (احتمال نقل مقاليد الحكم والسلطة في الدولة المصرية من الرئيس مبارك إلى نجله جمال)، تلك القضية التي شغلت الرأي العام المصري طوال تلك السنوات الأخيرة، وتعاملت معها النخب السياسية والفكرية بالنقد والرفض (غالبا) أو السكوت والتغاضي (أحيانا) أو الرضا والتهيئة (نادرا)، بينما ظل الموقف الرسمي متجاهلا القضية أو متحدثا عنها باعتبارها شائعات لا تستحق الرد عليها، حتى أعلن السيد الرئيس في حديثه أمام نواب الشعب أنه مستمر في موقعه لآخر نبضة في قلبه؛ وهو ما يعني نفي الرئيس لاحتمال التوريث المبكر الذي هو نقل السلطة من الأب إلى الابن في حياة الأب ووجوده. ولا يعني ذلك نفي احتمال التوريث الطبيعي –أو المؤجل- الذي هو التهيئة والتحضير لنقل السلطة من الأب إلى الابن بعد عمر طويل ينتهي بقضاء الأجل، ومن ثم وجب التنبيه إلى أن الحديث عن التوريث والموقف منه ينبغي أن يشمل الحالتين (العاجل منه والآجل). أشكال التوريث مرفوضة برمتها وهنا أريد أن أصحح أولا مفهومنا للتوريث ليشمل كل نقل للسلطة بعيدا عن الإرادة الحرة للشعب والجماهير وحقهم الحر في اختيار رأس الدولة (الأمر الذي لا يتأتى إلا من خلال تنافس حر، وممارسة انتخابية شفافة ونزيهة، ومناخ حرية كاملة –دستورية وقانونية.. حزبية وفردية.. إعلامية وجماهيرية- بما يتيح بالضرورة بروز الشخصيات العامة للمجتمع، ثم حرية الترشح، وحرية اللقاء بين المرشحين والناخبين، ثم حرية التصويت دون قيود، وضمان عدم تزوير إرادة الجماهير في أي مرحلة بأي وسيلة)، بما يعنى أن الشعب والوطن والدولة ليست ملكية خاصة يتم تسليمها من شخص لآخر بعيدا عن إرادة الجماهير، تلك الإرادة التي هي بمثابة برهان المواطنة وصك الملكية لكل مواطن في هذا الوطن، ويعبر عنها بحقه الحر في اختيارممثليه لكافة مواقع المسئولية في هذا البلد، ومن ثم فأي انتقال للسلطة بعيدا عن الاختيار الحر الشفاف هو توريث إذ إنه يعني التعامل مع الدولة والوطن والأرض باعتبارها عزبة وملكية خاصة. بهذا المعنى تستوي كل أشكال التوريث، العاجل منه والآجل، بل العائلي منه والحزبي والثوري، بل حتى الذاتي المستمر، إذ إن الطريق الوحيد المقبول لنقل السلطة ينبغي أن يكون عبر ماراثون التنافس الحر الذي تطبقه كل شعوب العالم الحر من خلال قواعد وآليات النزاهة الانتخابية المتعارف عليها، ومن ثم يستوي –عندي- أي انتقال للسلطة بغير معايير الحرية والشفافية والنزاهة الانتخابية المنضبطة والمتعارف عليها، سواء كان المنقول إليه السلطة هو ابن الرئيس (التوريث العائلي)، أو أحد أعضاء الهيئة العليا للحزب الوطني الديمقراطي (التوريث الحزبي) أو حتى الانتقال للسلطة- وفقا لشرعية ثورة يوليو- لأحد القادة العسكريين (التوريث الثوري العسكري)، بل ولا حتى التجديد والتمديد لشخص السيد الرئيس للمرة السابعة وانتقال السلطة منه إليه من خلال انتخابات ديكورية كالانتخابات السابقة (التوريث الذاتي المستمر)... فكل هذه نماذج لا تعرف ماراثون التنافس الحر الحقيقي الشفاف (الموجود حتى في الانتخابات الموريتانية). وقد حرص الذين قاموا بمهمة التهيئة للتوريث من خلال التسريب والنشر الصحفي والجدل المستمر حوله، وصولا إلى قدر من التطبيع مع الموضوع بعد أن كان مستهجنا وبعد أن كان غير مقبول طرحه أو مناقشته أصلا، حرص هؤلاء على وضعنا في السؤال الخطأ (من الوريث القادم؟ وما موقفكم منه؟)! وكأننا حتما لابد أن نورث، ثم قاموا بتضييق الخيار علينا لنختار بين التوريث العائلي والتوريث الثوري العسكري، وكأن من ليس مع التوريث العائلي، فقد وجب عليه أن يدعم التوريث الثوري العسكري، وكأن نجاح سيناريو التوريث الثوري هو حالة النجاح التي ينبغي أن تحلم بها الجماهير وتتمناها لتخرج بها من عار التوريث العائلي. وفي المقابل دعانا أصحاب مشروع التوريث العائلي إلى القبول بمدنية التوريث بدلا من استمرار عسكرته، وقالوا إن هذه خطوة على الطريق يجب أن نغتنمها! (مع أن الخيارين كلاهما مر). ومن ثم وجب أن تكون إجابتنا على هذا السؤال الخطأ هي الإجابة التي تصحح السؤال نفسه، فليست قضيتنا (من هو الوريث الذي نقبل به؟ ولا أي الوريثين أفضل لنا؟)، وكما أننا لسنا في عداوة شخصية مع أحد الوارثين بعينه؛ فإننا كذلك لن نرضى بأي من الوارثين ولا بغيرهما بهذه الطريقة، إذ إن خلافنا ورفضنا ينصب على عملية التوريث ذاتها، وموقفنا من كل الورثة سواء، حتى مع تسليمنا أن التوريث العائلي أكثر فجاجة في الصورة من غيره. نحن نريد أن نمارس حقوقنا كشعب يحق له أن يختار قياداته ليحق له أن يحاسبها إذا قصرت وأن يقومها إذا اعوجت وأن يستبدلها بغيرها متى رأى ضرورة ذلك. بالمناسبة هذه الرؤية سبقني إليها د. محمد حبيب (نائب المرشد العام للإخوان المسلمين)، ولكن يبدو أن حديثه إلى رويترز في 22/4/2009 كان مقتضبا؛ ففهم على غير حقيقته إلى الحد الذي جعل الأستاذ عبد الحليم قنديل يتهمه بالموافقة على صفقة التوريث!، وسبقني إليها كذلك الأستاذ إبراهيم عيسى في مقاله في العدد الأسبوعي للدستور 15 يوليو 2009 تحت عنوان (ييجي اللي ييجي)، وانتهى في خلاصته إلى قوله (لا تحيروا أنفسكم في ترشيح من سيأتي بعد الرئيس مبارك بل ركزوا كيف سيأتي!!).. ذلك المقال الذي لم أخطئ فهمه، بل استحسنته واتصلت بصاحبه شاكرا له عظيم فكرته وجرأته على عرضها بهذا الوضوح، ووعدته بالكتابة حولها انطلاقا من قناعتي بأهمية وصول هذه الفكرة للجميع لتكون محل اتفاق النخب المصرية الوطنية، ثم محل التفاف وتأييد الجماهير المصرية، بل لتصبح الركيزة الرئيسية لمشروع إنقاذ الوطن. التوريث العائلي يجري تنفيذه هل التوريث مشروع حقيقي يتم الإعداد الجاد له في خلفية المسرح السياسي المصري، ومن ثم يجب على القوى والنخب الوطنية تكوين موقف منه واضح وصريح لصالح مستقبل الوطن والأجيال؟ أم إن التوريث مجرد حلم يداعب أصحابه وشبح يشغل خصومه وجدل في إطار ما لم يأت أوانه بعد؟. الحقيقة على وجه القطع واليقين أن التوريث –والتوريث العائلي تحديدا- مشروع حقيقي يجري التنفيذ (وليس الإعداد) له في مقدمة (وليس في خلفية (الواقع السياسي المصري، وأن ما يبدو على السطح من خلاف لا يعدو أن يكون حول تعجيل أو تأجيل ما هو متفق عليه، وعلينا جميعا التعامل على هذا الأساس، وشواهد ذلك أكثر وأوضح من البحث عنها، وأكتفي بذكر بعض منها: 1 الحرص الشديد طوال العقود الثلاث الماضية ألا تبرز للساحة العامة أي شخصيات تكون محل التفاف وحب وثناء الجماهير، وسرعة تغييبها إذا تحقق لبعضنا شيء من ذلك. 2 الحرص التام طوال العقود الثلاث الماضية على دوام فراغ منصب نائب رئيس الجمهورية رغم النصوص الدستورية التي كانت موجبة لوجوده، ثم جاءت التعديلات الدستورية التي جرت في مارس 2007 لتنقذ فراغ المنصب من التعارض مع الدستور. 3 ما حدث في 26/3/2007 من انقلاب دستوري شمل تعديلا بل تفصيلا (للمرة الثانية خلال أقل من سنتين) للمادة 76 –الخطيئة الدستورية- والتي قضت باستحالة تقدم منافس مستقل إلا أن يوافق عليه الحزب الوطني -لزوم الديكور أو الحاجة- وذلك من خلال شرط تزكية 250 من أعضاء الشعب والشورى ومحليات 14 محافظة، بينما حافظت المادة نفسها على ديكور انتخابات وهمية من خلال سماحها بمشاركة أحزاب كرتونية ليس لها عضوين اثنين يمثلونها في كل المجالس النيابية والمحلية، كما أعطت المادة نفسها كل الصلاحيات في كل مراحل وفي كل إجراءات الترشيح وسير العملية الانتخابية وحتى إعلان النتيجة- دون تعقيب- للجنة الانتخابات الرئاسية التي تتكون من عشرة أشخاص بعينهم ويرأسهم رئيس المحكمة الدستورية العليا. 4 وقد أعقب ذلك ما حدث في انتخابات مجلس الشورى 11 يونيو 2007؛ حيث منع وصول أي شخص لا ينتمي للحزب الوطني إلى مقاعد الشورى ال 88 (باستثناء عضو واحد لحزب التجمع)، ثم ما حدث في انتخابات محليات 8 أبريل 2008؛ حيث منع وصول أي شخص لا يرضى عنه الحزب الوطني لمقاعد المحليات ال 52 ألفا (وحدث هذا وذاك لضمان عدم حصول أي مرشح مستقل للتزكية المطلوبة)، ثم ما حدث في 30 يونيو 2009 حين اختار السيد رئيس الجمهورية المستشار فاروق سلطان بالاسم والانتقاء رئيسا للمحكمة الدستورية العليا ليكون رئيسا للجنة الانتخابات الرئاسية القادمة، وتم هذا الاختيار بالتجاهل لجميع نواب رئيس المحكمة المستحقين لشغل المنصب، بالانتقال إلى المحكمة العليا من خارجها، بعد أن كان رئيسا لمحكمة جنوبالقاهرة (وهو الذي شهدت رئاسته لتلك المحكمة وقف إجراء انتخابات المهندسين والأطباء المعطلة لأكثر من خمسة عشر عاما، بينما أجرى انتخابات المحامين الأخيرة والتي أعلن هو نتائجها في 1 يونيو 2009، ليعقبها مباشرة ترقيته مساعدا لوزير العدل في 6 يونيو 2009، ثم إعادة ترقيته لرئاسة المحكمة الدستورية في 30 يونيو 2009). 5 الأهم من هذا كله هو الواقع الفعلي لمساحة الحضور السياسي للوريث الابن في الداخل والخارج بلا غطاء إلا غطاء المستقبل، وأوضح من ذلك حجم ومساحة الحضور التنفيذي للنائب أحمد عز بلا معقب –وفوقيته على جميع الساحات البرلمانية والحزبية التنظيمية والوزارية الحكومية بلا أية قيود ولا حدود- ومعلوم للجميع أن فوقية أحمد عز ليس لها من سند ولا غطاء إلا أنها ظل وانعكاس وامتداد لفوقية الوريث الابن وحجم سلطاته وصلاحياته الحالية (والتي هي مستمدة من قوة سلطاته وموقعه في المستقبل). 6 أخيرا يبقى انتقال السلطة -لأي من كان- توريثا وتأبيدا ما بقيت المادة 77 تقضي ببقاء الرئيس في السلطة مدى الحياة –دون تحديد سقف زمني لمدد الرئاسة بمدتين- وهو التحديد الذي كان محل إجماع القوى الوطنية وتجاهلته التعديلات الدستورية الأخيرة. أسئلة الحاضر والمستقبل هذه حقائق لا يسع أحد تجاهلها، وتبقى الأسئلة الأهم والتي تحتاج الإجابة عليها إلى مشاركة كل المخلصين في هذ الوطن: 1-هل سيناريو التوريث قضاء وقدر لا مفر منه؟ 2- ماذا يجب على الجماعة الوطنية فعله -إزاء هذا السيناريو- من أجل مستقبل أفضل للأجيال القادمة؟ 3- هل يمكن أن يصبح السؤال المطروح بين جماهير شعبنا هو (بالعامية المصرية: مين اللي حنجيبه للرئاسة القادمة؟ وليس مين اللي حييجي)؟ وبالطبع الفارق بينهما كبير!. 4- هل من أمل في أن نصبح شعبا من الشعوب الحية الفاعلة التي تختار حكامها وقياداتها (على الطريقة الأمريكية أو الإسرائيلية! أو الهندية أو اللبنانية أو الموريتانية التي عايشناها في الشهور القليلة الماضية)؟ 5- مرة ثانية هل نحلم أن نمارس حقوقنا كشعب يحق له أن يختار قياداته بنفسه ودون وصاية من أحد، ليحق له أن يحاسبها إذا قصرت، وأن يقومها إذا اعوجت، وأن يستبدلها بغيرها متى رأى أن اختياره لم يحقق آماله المرجوة، ولتتعامل قيادته معه وهي مدركة لملكية الشعب لهذه الحقوق؟. أرى أن الجواب على هذه الأسئلة يحتاج إلى نقاش جاد بين النخب الوطنية بكافة أطيافها.. وأدعو الجميع أن يدلوا بدلوهم في هذا النقاش؛ فهذا واجب تاريخي لا يصح معه الصمت!!.