منذ نحو 90 يوما، اشتد الجدل حول مدى جدوى إقالة رئيس الوزراء حازم الببلاوى، وتولية المهندس إبراهيم محلب بدلا منه، واستند المحتجون على هذه القرار إلى حجة بدت وجيهة فى وقتها، وتذهب إلى ضيق الفترة التى سيتولى فيها رئيس الوزراء الجديد منصبه، خصوصا مع اقتراب موعد انتخاب الرئيس، وعزله مجددا عن منصبه، ما يستوجب كل هذا الإخفاق فى مهامه، إلا أن إبراهيم محلب أثبت خطأ وجهة هذه النظر هذه وأكد أنه كان «الرجل المناسب فى المكان المناسب». فى 24 فبراير الماضى تم تكليفه من الرئيس المؤقت المستشار عدلى منصور، ومنذ ذلك الوقت أخذ محلب على عاتقه إدارة شؤون الحكومة، بجانب قيامه بإدارة شركة المقاولون العرب، ونشاطه المكوكى فى الاطلاع على كل شاردة وواردة، الأمر الذى حدا بالبعض أن يطلقوا عليه لقب «المعلم»، وهو اللقب الذى أطلقه عليه أحد زملائه ضمن المجموعة الوزارية، وكان محلب يحب هذا اللقب. محلب مهندس مدنى، من مواليد عام 1949، حصل على بكالوريوس الهندسة المدنية من جامعة القاهرة عام 1972، والتحق بشركة «المقاولون العرب» فى نفس العام، وتدرج فى تولى المناصب بدءا من مدير فنى، إلى مدير إدارة الكبارى، مرورا بعضو مجلس الإدارة، حتى أصبح رئيس مجلس إدارة الشركة، ورئيس مجلس إدارة نادى المقاولون العرب الرياضى. ومع حكومة الدكتور الببلاوى، أسندت إلى محلب حقيبة الإسكان، خلفا لطارق وفيق، الذى تولى الوزارة فى فترة حكومة الإخوان، وهناك بزغ نجم محلب كأقوى المرشحين لخلافة الببلاوى، استنادا إلى ما يتمتع به من دقة العمل والإنجاز السريع، وها هما الصفتان اللتان يحتاج إليهما البلد فى هذا التوقيت الحرج من تاريخه. «ابن بلد» فى كلامه وفى أول إطلالة له بعد توليه مهمته التاريخية، أصر محلب على أن يكتب خطابا يوجهه إلى الشعب بنفسه، دون تدخل من أحد، حاول فيه الالتزام بمبادئ وبروتوكولات الإلقاء الرسمى، ثم اكتشف أنه لا يمكنه التحدث مع الشعب على غير طبيعته، وفضل عدم التقيد ببروتوكولات، ولهذا لم يكررها ثانية فى خطاباته أو الكلمات التى كان يلقيها فى المؤتمرات الصحفية بعد تيقنه أنه إذا تحدث إلى المواطنين بارتجال ودون الالتزام بالقراءة من كلمات مكتوبة، سيكون أقرب إلى الناس، وما حدث غير هذا، لم يكن سوى استثناءات قليلة كان يلقى فيها كلمة نيابة عن رئيس الجمهورية، أو فى مؤتمر دولى متخصص، مثل المؤتمر العالمى للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، الذى فضل خلاله الالتزام بنص الكلمة المكتوبة والقراءة من خلاله. وعلى نفس المنوال تأكد محلب من أنه لن يتمكن من التقيد بأى بروتوكولات ترتبط بمنصبه كرئيس للوزارء، وطلب من مسؤولى المراسم داخل مجلس الوزراء، والحراسة الخاصة به، طلقه حرا، وعدم تقييده ببروتوكولات وإجراءات تحد من حركته، وكان أول تطبيق لهذا حينما قام بزيارة مصانع الغزل والنسيج فى المحلة الكبرى، حيث خرج وصعد إلى البلكونة، ووقف متحدثا إلى جموع العمال فى مخاطرة أمنية لم تكن مأمونة العواقب، وهكذا فى باقى المواقف الأخرى، مثل الطلبات التى يسعى المواطنون إلى تقديمها خلال جولاته الخارجية فى المناطق المختلفة، يجعل محلب المرافقين له فى الجولة من مجلس الوزراء يقومون بجمع الطلبات من المواطنين لبحثها. عند دخوله المجلس رئيسا للوزراء، قلل عدد السيارات الخاصة بموكب رئيس الوزراء، واكتفى بسيارة واحدة حراسة، بالإضافة إلى السيارة المخصصة له، وكمؤشر على إنجازه وسلوكه العملى فإن محلب قام بأسرع تشكيل حكومى منذ فترة ما بعد الثورة، وانتهى من كامل التشكيل فى خلال أسبوع من تكليفه تقريبا قام فيه بحلف اليمين، وشملت التغييرات نحو 15 وزيرا. رجل الجولات اليومية الإنهاك قد يكون أصاب كل العاملين بمجلس الوزراء خلال ملاحقتهم للعمل على متابعة رئيس الوزراء المهندس إبراهيم محلب فى جولاته الخارجية، حيث لم يمر يوم تقريبا من 90 يوما عمر حكومته حتى الآن دون جولة أو عدة جولات خلاله، وكانت تلك الجولات فى البداية محلا للتساؤل والانتقاد خصوصًا، وأن هشام قنديل رئيس الوزراء خلال فترة حكم الإخوان كان قد بدأ سياسة الجولات الخارجية والتحرك بين المواطنين، رغم أن مشكلات مصر معروفة، وحفظت، ولا تحتاج إلى النزول كل يوم لبحثها، والبعض كان يتجه إلى تفسير تلك الجولات فى البداية بأنها تهدف إلى الظهور الإعلامى، وكان محلب نفسه يدرك هذا الظن، إلا أن الرجل لم يكن يخطر على باله أى وسيلة إعلامية بالمكان الذى سيذهب إليه، واستمر فى تكثيف الجولات يوميا، ليقضى على شبهة «الظهور الإعلامى»، ويثبت أن المسؤول مكانه فى الشارع وليس على المكتب، فى نشاط جعل العاملين معه يشعرون بالإجهاد، خصوصا أن محلب كان يغير دوما فى سياسة الجولات التى يقوم بها، حيث عمل من يوم لآخر على دراسة وبحث مشكلات الجهة أو المنطقة التى سيقوم بزيارتها قبل الزيارة، وتقديم الحلول والمقترحات إلى أصحاب المشكلة، وكانت بداية ظهور ذلك بقوة فى جولة مصانع الغزل والنسيج بالمحلة، حيث عكف محلب على عقد اجتماعات على مدى الليلة السابقة للزيارة، لبحث المشكلات، وأصدر تعليمات إلى وزرائه أنه لن يتحرك إلى الجولة إلا لو تم توفير كميات من القطن وإرسالها إلى مصنع الغزل والنسيج بالمحلة، ويصل قبل وصوله، وهو ما حدث بالفعل، ثم شرع مع عمالها فى حصر مشكلاتهم فى عدة بنود، إلى أن أعلن على العمال ما سيتم عاجلا، وطلب منهم مهلة حتى تتمكن الحكومة من تنفيذ وعدها بحل أزمة الرواتب التى لم تكن قد صرفت للعمال منذ عدة أشهر قبل الزيارة. المرة الثانية التى بادر فيها محلب بالنزول مباشرة إلى العمال، والتحدث معهم، كانت فى مصنع كيما للبتروكيماويات بأسوان، حيث كان مشروع تطوير الشركة القائم على تحويلها للعمل بالغاز الطبيعى متوقفا على توفير ضمانات من بعض الجهات المساهمة للبدء فى الحصول على قروض التمويل وتنفيذ المشروع، وبالفعل خلال الجولة وزيارة محلب للمصنع بمرافقة وزير الصناعة والاستثمار منير فخرى عبد النور أعلن وزير الصناعة أنه تم توفير كل الضمانات التى كانت مطلوبة، وتم تنفيذها قبل موعد الزيارة. مفاجآت رئيس الحكومة هناك قرارات أصدرها محلب خلال جولاته دون تخطيط مسبق، واتسمت بعنصرى المفاجأة والعقاب، وأولها كان فى جولة محافظة أسيوط، التى تفقد فيها محلب القرى المتضررة من السيول والأكثر فقرا، حيث كان قد قام بالدخول والسير داخل مناطق لم تكن مخططة فى الجولة، وتجول بين المنازل فى حوار جانبية، وخلالها واجه بالوعات صرف صحى غير مغطاة، فأصدر محلب تعليمات فورية بوقف مدير الصرف الصحى المسؤول فى المنطقة، ومثله أصدر قرارا مشابها خلال زيارته إلى مستشفى الزهراء الجامعى، والتى رافقه خلالها وزراء التخطيط والتعاون الدولى، والأوقاف، والصحة، والإسكان والتضامن الاجتماعى، عندما قرر إعفاء مدير المستشفى ونوابه وتحويل جميع المخالفين إلى التحقيق، مع تشكيل لجنة تضم وزراء الصحة، والتخطيط والتعاون الدولى، والإسكان، والأوقاف، لمتابعة تطوير المستشفى ومستشفى الحسين الجامعى وباب الشعرية، من أجل تقديم خدمة طبية متميزة للمواطن المصرى. اتسمت قراراته بعنصرى المفاجأة والعقاب فى مواجهة تقصير المسؤولين محلب «الوقت من ذهب» بالإضافة إلى التعليمات التى يصدرها إلى المهندسين والموظفين القائمين على أى مشروع يقوم بزيارته، فإن عامل الوقت حاسم بالنسبة إلى محلب، الذى يصر على الانتهاء والإنجاز منه فى خلال وقت ومدة محددة، يساعده فى هذا خبرته كمهندس مدنى عمل رئيسا ل«المقاولون العرب»، وجعلته هذه الخبرة يكتشف خلال جولته بمحافظة أسيوط أن شركة استشارية تحايلت قبل الزيارة، وقامت بإجراء بعض عمليات الحفر فى أعمال محطة صرف صحى قبلها لإظهار أن هناك تطورا فى عمل المشروع، حيث سبب لهم محلب حرجا، وكشف خلال الزيارة عن أن أعمال الحفر التى تمت، جرى تنفيذها منذ يوم واحد فقط! لكن بقى مع هذا كله بعض تساؤلات حول الجولات التى يقوم بها رئيس الوزراء، فهل من المفترض أن يقوم هو بالجولات فى كل القطاعات؟ وهل حينما يكتشف رئيس الوزراء خطأ فادحا، ويقيل بسببه المدير المسؤول عن الجهة أو المشروع الذى شاهد فيه الخطأ، هل يعد الوزير أو المحافظ المختص مسؤولا بدوره هو الآخر؟ ألا يعد المحافظ هنا مقصرا إذا أخذنا بمنطق رئيس الوزراء؟ هل سيرسل محلب أهدافه بوضوح إلى وزرائه ومحافظيه؟ وهل يغير محلب فى سياسة جولاته الخارجية حينما يتولى رئاسة الوزراء، مع الرئيس المنتخب الجديد المشير عبد الفتاح السيسى؟ كل هذه الأسئلة ستكون المرحلة المقبلة كفيلة بالإجابة عنها. الزعيم لا يموت وقالها محلب، فى زيارته إلى المحلة، وقال موجها حديثه إلى عمال مصانع الغزل والنسيج العام، التى بناها عبد الناصر إن عبد الناصر لم يمت، وفى أسيوط تعمد تغيير خط سير الجولة، ودخل إلى القرية التى ولد فيها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وكان يرغب فى الذهاب إلى المنزل، الذى كان يعيش به عبد الناصر فى تلك القرية لولا ضيق مداخل الطرق، وخلال مروره فى المحافظة فى طريقه توقف أمام تمثال الرئيس الراحل عندما مر من أمامه. حتى على مستوى الجولات الخارجية وسياسة التوازنات الخارجية يمكن القول إن محلب قد تمكن من تحريك المياه الراكدة مع القارة الأهم التى بنى لمصر فيها علاقات ومكانة الرئيس الراحل عبد الناصر، وهى قارة إفريقيا من خلال زياراته، التى قام بها فى تشادوتنزانيا وغينيا الاستوائية وحتى خلال لقاءاته مع رؤساء وممثلى الدول الإفريقية خلال احتفال تنزانيا بمرور 50 عاما على الوحدة ما بين زنجبار وتانجانيقا فإن حوار محلب لم يخلُ مع غالبيتهم من ذكر اسم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. سواء رئيس كينيا الذى تذكر مواقف عبد الناصر مع والده أو حتى الرئيس التنزانى الذى عرض لمحلب الكتاب الذى تم طبعه بمناسبة احتفالية الوحدة، وبه صورتان لعبد الناصر مع الزعيم التنزانى نيريرى. وغيرهم ممن أسهم عبد الناصر فى دعم حركات التحرر الوطنى فى بلدانهم. وكل هذا أسهم فى مؤشرات نجاح محلب فى إنهاء تعليق عضوية مصر فى الاتحاد الإفريقى وتوجيه دعوة رسمية إلى الرئيس المنتخب للمشاركة فى أعمال القمة الإفريقية نهاية هذا العام. طلب عدم تقييده بإجراءات أمنية.. وخاطب عمال المحلة من «البلكونة» دون حرسه الشخصى هو والمشيروعبد الناصر الأشهر القليلة المقبلة، والتى ستبدأ من إعلان فوز المشير السيسى بالرئاسة، وحتى الانتخابات البرلمانية على الأقل، سوف يقودها المهندس إبراهيم محلب، رئيس الوزراء، إلى جانب الرئيس المنتخب، وهى الأشهر التى تعد من أهم المراحل التى تمر بها مصر، حيث تعد البداية الحقيقية لمرحلة بناء ما بعد نهاية المرحلة الانتقالية. فالمعلم والمشير قياديان تجمعهما صفات واحدة، ولعل تلك الصورة التى نُشرت للمشير عبد الفتاح السيسى، وهو يتقدم الجنود فى التدريبات العسكرية، تتطابق كثيرا مع ما فعله محلب، وهو يتحرك فى جولات عديدة بين المواطنين، وفى المصانع، وحتى فى الدول الإفريقية، حيث ظهر المعلم فى حيوية تستدعى صورة المشير المذكورة. هذه هى أولى صور التوافق ما بين المعلم والمشير، وفى داخلها توجد صورة أخرى، كلتاهما انطبعت عليهما، والشعب شعر بذلك تجاه كل منهما، وكان جزءا من الثقة السير على خطى الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بكم الحب والتاريخ الذى تركه يعيش فى الشعب. فالمشير السيسى ومنذ الخطابات التى ألقاها فى ثورة 30 يونيو ونبرة كلمات الخطاب الموجهة إلى المواطنين، والتى ستدعى مشاعرهم وإيمانهم بها استعادت صورة الزعيم عبد الناصر، حيث بدأ كثيرون يربطون بين الاثنين، ولم يعد ذلك مجرد رأى لعدد من الأشخاص، لكنه بات شعورا سائدا عند كل المصريين. ولعلنا نتذكر السؤال الذى وُجه إلى المشير السيسى، خلال أول حوار معه بعد إعلان ترشحه للرئاسة، حول أوجه التشابه بينه وبين الزعيم، حيث رد بأن تشبيهه بالرئيس الراحل شرف له. ودعم تلك الصورة مع المشير السيسى توجهاته تجاه الدول العربية وموقفه من روسيا وتجاه الولاياتالمتحدة، كما لو أنه يعيد سياسة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر من حيث توازنات مصر السياسية خارجيا وداخليا. على الجانب الآخر فإن المهندس إبراهيم محلب رئيس الوزراء الذى ترأس الحكومة المؤقتة مع المستشار عدلى منصور، ويستكمل مرحلة أخرى فى أول بداية فعلية لمصر بعد المرحلة الانتقالية مع المشير عبد الفتاح السيسى، الرئيس المنتخب، هو الآخر منذ اليوم الأول، وكل ما يقوم به يربط بينه وبين الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وفى كل قراراته وتوجهاته يحاول أن يحيى أمجاد عبد الناصر ويحيى ما سبق وبناه الزعيم الراحل، وينهار على مدى السنوات الماضية، والأمر هنا لا يقتصر على شعور الشعب ولا قرارات وتوجهات محلب، وإنما محلب نفسه يكرر دائما، ويذكر فى خطاباته وكلماته اسم وعصر الرئيس عبد الناصر، ويقولها صراحة، والشعب يصدقها منه، لأن محلب بالفعل يؤمن بما قدمه عبد الناصر إلى مصر.