كأن كنيسة قصر الدوبارة لم تكتف بكل ما قدمته لمصابى محمد محمود ومجلس الوزراء -وهو كثير- فقررت أن تمنح شارع الشيخ ريحان ليلة تمسح فيها عنه كل الدماء والآلام التى غطته وتغلغلت فى أرضه. نجحت الكنيسة فى الساعة الحادية عشرة ليلة 31 فى أن تستبدل صوت الترانيم بصوت الآهات والصراخ والبكاء وطلقات الرصاص. يا إله الحب اِسمع.. لدعانا أجمعين خلِّى مصر بلدنا جنة.. رد حق المظلومين ارفع الخوف والمظالم اطرد الجوع والفساد انشر الحق فى وطنا والعدالة فى البلاد كانت هذه الترنيمة تتردد فى داخل الكنيسة وكنا نقف نحن بالمئات مسلمين ومسيحيين فى شارع الشيخ ريحان نشاهد الشاشة التى تنقل لنا ما يحدث فى الداخل ونسمع صوت الترنيمة ونقرأ كلماتها مكتوبة على الشاشة فنتمكن من ترديدها، كان الصوت يهز المكان يحاول أن يطرد صوت الآلام، ويحاول أن يتسلل إلى قلبى ليملأه اطمئنانا. «بنظام وبهدوء وبرقىّ» كما طلب منا القس، بدأنا التحرك فى اتجاه ميدان التحرير،الواقفون فى الخارج أولا يتبعهم الواقفون فى الجراج والمداخل ثم يتبعهم الموجودون داخل الكنيسة، تقدمت مجموعات من البالونات الملونة المسيرة تحمل صور الشهداء وعلم مصر، وأضاءت الشموع التى تبادلناها وتبادلنا نورها، أضاءت ظلام الشارع المفروض على المنطقة منذ بناء الأسوار العازلة فى كل من شارع قصر العينى والجهة الأخرى من شارع الشيخ ريحان. لم نعد نسمع الصوت القادم من داخل الكنيسة فبدأ الشباب حولى يرددون نفس الترنيمة: مهما كان الحال هتقدر.. يا اللى بتشق البحور مهما كان ع الأرض ضلمة.. السما مليانة نور امتلأ شارع الشيخ ريحان من أول ميدان سيمون بوليفار حتى الجدار العازل فى الجهة الأخرى من شارع قصر العينى بالآلاف يغنون ويحملون الشمع، كانت كل خطوة تربت على أرض الشارع وتعانقها وتواسيها. فى ميدان التحرير التحمت مسيرتنا بالآلاف الملتفين حول منصة واحدة، استمعنا إلى الرائعة جميلة إسماعيل وهى تقدم لنا شيخا يرتّل ابتهالات صوفية، وبعده صعد كورال الكنيسة لنتشارك معا، وفى ميدان التحرير تماما كما كنا نفعل فى فبراير فى ترتيل: بارك بلادى بارك بلادى يا سامع الصلاة.. فى قلوب كل البشر بارك بلادى بارك بلادى والتفت لصراخ قلوبنا وارسل لينا المطر اقترب شاب يحمل ابنته الطفلة على كتفيه من السيدة الواقفة بجوارى تردد الترانيم وسألها «هو ده قداس؟ يعنى اللى بيقولوه دلوقتى اسمه قداس؟»، فقالت له «لأ. .ترانيم»، فكرر وراءها «ترانيم»، ومد يده ليسلم عليها وقال لها «أنا اسمى محمد. كل سنة وانتى طيبة»، ثم نظر إلىّ وقال «كل سنة وانتى طيبة». تأثرت بابتسامته الودود واعتبرتها أجمل «كل سنة وانتى طيبة» تلقيتها. *** كنت أفكر طوال الأسبوع الماضى كيف ستمر ليلة رأس السنة. لن يناسبنى الاحتفال ولن يناسب أصحابى، وأيضا التجاهل الكامل للمناسبة سيكون إضافة كآبة على أحزاننا؟ عندما عرفنا دعوة الحضور فى ميدان التحرير، قرر كل منا بعيدا عن الآخر أن يذهب إلى هناك. كل من يحمل فى قلبه نفس الهم ونفس الاهتمام سيلتقى من يشبهه فى ميدان التحرير. قررنا أن يهرب بعضنا إلى بعض فى ميدان التحرير، وبذلك لن يضطر أى منا إلى تحمل جملة «حرق دم». وكان هذا أقصى طموحى شخصيا. فأهدتنى كنيسة قصر الدوبارة وشعبها الرائع، كما أهدتنى جميلة إسماعيل وضيوفها، ليلة من أجمل ليالى رأس السنة فى حياتى. للأسف وصل على الحجار بعد مغادرتى الميدان فلم أتلقَّ منحته الجميلة للمكان والناس.