وأنا أقرأ للأستاذ مقالة مكتوبة عنه، فى إحدى المجلات الثقافية، قرأت قول الكاتب إن نجيب محفوظ قد قرأ دائرة المعارف البريطانية كاملة! فتوقفت عن القراءة، وقلت له: هذه مبالغة، فلا أحد يقرأ دائرة المعارف كلها، أليس كذلك؟ فقال: الحقيقة أننى قرأتها فعلا. فقد وضعت الموسوعة ضمن برنامج القراءة اليومى، وكنت أقرأ فيها بانتظام على مدى سنوات حتى قرأتها كلها، مع استثناءات لا بد منها، فثمة مواضيع علمية شديدة التخصص، لم أستطع أن أتمها، ولا أن أستوعبها تماما، لكن باقى الموضوعات قرأتها بشغف ومتعة، إذ من خلالها يمكنك أن تطلع، بقدر الطاقة المتاحة للفهم والاستيعاب، على حصيلة المعارف الإنسانية. هكذا بمنتهى البساطة يتحدث الأستاذ عن جهده الخارق فى المثابرة على قراءة هذه الموسوعة العلمية الضخمة، والتى أظن أن معظم العلماء والباحثين الذين اشتركوا فى كتابتها، لم يتصورا أن هناك فى بلد بعيد، من سيضع جدولا يوميا لقراءتها كاملة، عابرا من خلالها عبر الثقافات المتباينة، والتخصصات المختلفة! هذا هو نجيب محفوظ الذى عرفته على مدى عقود ثلاثة، دون أن أراه يوما يتفاخر بذكر معلومة، أو يثبت خطأ كلام محاوره بالإشارة إلى ما جاء فى أى من الكتب الكثيرة التى قرأها بعناية واستفاد منها، دون أن يتعالى يوما على الآخرين بموسوعيته المدهشة ولا بثقافته العميقة. وهذا لا يمنع أن يشير الأستاذ أحيانا إلى أسماء بعض الكتب أو المراجع التى قرأها، إذا كان فى ذلك ما يمكن أن يفيد من يستمع إليه. فمثلا تحدث معى طويلا عن موسوعة: «قصة الحضارة» لويل ديورانت. فقد امتاز الأستاذ بميزات كثيرة، من ضمنها حبه الشديد للمعرفة بمعناها الواسع، ومن الجدير بالذكر هنا الحديث عن قدرة الأستاذ الفائقة على تنظيم الوقت، واستثماره أفضل استثمار ممكن، فمن دون التخطيط المحكم للتعامل بحرص مع الزمن، ما تمكن قط أن يحقق ما حققه. فإذا كان قد تخصص فى دراسة الفلسفة في الجامعة، ثم اتجه بعد ذلك إلى الكتابة الأدبية، واهتم اهتماما خاصا بعلوم النفس والاجتماع والسياسة، ثم عمل فى صناعة الأفلام السينمائية، وكتب المقالات فى الصحف والمجلات الثقافية، فإن هذه المجالات جميعا لم تستطع أن تحصره فى داخلها، إذ نراه يتطلع إلى أشكال أخرى من المعارف، وأنواع أخرى من الفنون، فهو خبير -مثلا- بفن الموسيقى، الشرقيةوالغربية، يتذوق هذه وتلك، وهذا أمر نادر الحدوث، إذ من يميلون إلى الموسيقى الغربية، تتوقف عندهم الرغبة فى العودة إلى الاستماع إلى موسيقانا الشرقية، لبساطتها الشديدة بالمقارنة بالموسيقى الكلاسيكية الأكثر تركيبا وتعقيدا وتشابكا. وقد قضى الأستاذ عاما كاملا فى دراسة آلة «القانون» فى معهد الموسيقى العربية! وقد دخل المعهد لكى يدرس النوتة الموسيقية، دراسة أكاديمية، ويتعلم العزف على آلة موسيقية ذات طبيعة خاصة، فآلة «القانون» آلة شرقية صميمة، ولعله لذلك أحبها، واختارها دون غيرها.