جاءت معظم الدوائر المعرفية والمعاجم التي صنعها العرب في تاريخهم نتيجة جهود فردية إذا شكلت لجنة علي مستوي رفيع فعليها أن تضع خطة دقيقة تحدد فيها ميادين البحث وتسند المواد إلي أهل الاختصاص أحمد حسين الطماوي عقد المجلس الأعلي للثقافة ندوة موسعة امتدت لعدة أيام ابتداء من 20/4/2010 حول صناعة المعاجم والموسوعات العربية، وهو عمل صالح للثقافة يستحق الإكبار والمناصرة، لأننا جميعا نبذل كل جهد ينهض بالمعارف ويقربها إلينا، وقد تطلعت مع غيري، منذ فترة طويلة إلي أن يكون في حوذتنا دائرة معارف عظمي، مثل دائرة المعارف البريطانية «انسبكلو بيديا بريتانتكا» وموسوعة «لاروس» الفرنسية للاستعانة بها في درس تراثنا، وتراث غيرنا. وللعرب معاجم متخصصة، ودوائر معارف، عامة كانت جليلة الفوائد وقت ظهورها، ويسرت المعلومات لدارسي زمانها، وما زالت سخية تعطي، ولكن في موضوعاتها فحسب، مثل معجم «لسان العرب» لابن منظور، ولا تقتصر فائدته في اللغة، وإنما فيه تاريخ واجتماع وأمثال واسماء مدن إلي آخره، و«معجم البلدان» في الجغرافيا لياقوت الرومي، وكتب «الطبقات» وكتب التاريخ الكبري، مثل تواريخ الطبري وابن الأثير والمسعودي وابن خلدون، وفي مجال التراجم والإعلام هناك «معجم الأدباء» لياقوت إلي آخره. بيد أن هذه المعجمات تفيدنا في درس الحياة العربية والإسلامية في العصور الوسطي، وتمثل المستوي العلمي والمعرفي لعلماء تلك الفترة، ولا نستطيع أن نطلب من مؤلفي هذه الموسوعات أكثر مما فعلوا، ولا يؤخذ حديثي علي أنه انتقاص للثقافة العربية، فإنني شديد الحماسة لماضي أمتي، وتدفعني غيرتي عليه إلي الحديث عنه، وضرورة تطويره، وإمداده بما جد في عالمنا الحديث. جهود المعاصرين وقد تواصلت صناعة الموسوعات والمعجمات في العصرين المملوكي والعثماني، علي يد علماء أجلاء منهم الصلاح الصفدي، وابن خلكان، والسيوطي، والقلقشندي، وفي العصر الحديث انبري نفر من علماء الأجيال السالفة، واعدوا دوائر معارف واسعة لتغذية الحياة الثقافية، وجمعوا معارف شتي في أعمال متكاملة أو شبه متكاملة، وقربوا الأخبار العلمية، والعلوم التجريبية إلي القارئ، حتي لا يقف جامدا عند علوم أهل القرون الخالية مثل: موسوعة اصطلاحات العلوم الإسلامية المعروفة ب «كشاف اصطلاحات العلوم» للشيخ المولوي محمد علي بن علي التهانوي السني الحنفي، ومؤلف هذه الموسوعة لم يجد كتابا حاويا لاصطلاحات جميع العلوم المتداولة بين الناس، علي ما جاء في مقدمة موسوعته فرأي أن يؤلف كتابا كبيرا يجمع فيه هذه المصطلحات لسد حاجة المتعلم، واعتماده علي قدراته بعيدا عن الأساتذة العارفين، فقام بترتيب هذه المصطلحات علي حروف التهجي. وواضح من هذا العمل أن صاحبه يريد استقلالا للدارس، وتلك إحدي الغايات من الأعمال الموسوعية، إذا إنها تعود الباحث علي مواجهة العلوم بنفسه، وتذليل ما يعترضه من صعاب عن طريق هذا العمل الجامع، وقد فرغ المؤلف من عمله هذا سنة 1158ه، وطبعته شركة خياط للكتب والنشر في بيروت عام 1966 في ستة مجلدات من القطع الكبير. دائرة معارف البستاني، وهي كما وضعها المعلم بطرس البستاني «قاموس عام لكل فن ومطلب» واستطاع الرجل الهمام بمفرده أن يصدر ابتداء من عام 1876 م ستة مجلدات كبيرة، وتقدم في السابع ووافته المنية عام 1883، ولكن الجهد استمر، فأصدر ابنه سليم المجلد السابع والثامن، حتي إذا أدركه الموت، واصل ابناه نجيب ونسيب العمل الشاق يؤازرهما سليمان البستاني «معرب الإلياذة» فصدرت المجلدات التاسع والعاشر والحادي عشر، وتوقف هذا المشروع الجليل عند مادة «عثمانية». ودائرة معارف البستاني تتضمن العلوم الإلهية والفلسفية، والمدنية والسياسية من فقه وقانون، والعلوم التاريخية، وما يتصل بها من جغرافيا وميثولوجيا والعلوم التعليمية من حساب وجبر وهندسة وتكنولوجيا الآلات الحديثة، والمبتكرات الجديدة. هذا غير علوم اللغة من أدب وشعر وبيان، وتناولها للأفلاك من كواكب وبروج ومنازل ولم يفتها أن تعرض للفنون من عمارة وتصوير وموسيقي، وغير ذلك مما يتعلق بشئون الزراعة والصيد واستخراج المعادن.. وكان لمساعدة الحكومة المصرية في عهد الخديو إسماعيل بشراء نحو ألف نسخة أكبر الأثر في مناصرة هذا العمل.. ونظرا لعدم تخصصها، فإنها تعد أهم دوائر المعارف العربية في القرن 19، امتداداً لهذه الدائرة من المعارف الإنسانية أنشأ فؤاد أفرام البستاني دائرة معارف أخري، لاحق من خلالها التقدم العلمي المتتابع، وما جد في مختلف الفنون والآداب في النصف الأول من القرن العشرين، أي تمثيل الواقع المعاصر في الدائرة السابقة. وهذه الإضافات الكثيرة، هي جوهر الموضوع في إعداد دوائر المعارف، ذلك أن الموسوعات العلمية لا تتم لها الفائدة إلا بتجديدها فترة بعد أخري، وإدخال ما استجد في العلم والعالم إليها من أحداث ومخترعات، وهذا ما حاولت توفيره دائرة معارف فؤاد أفرام البستاني رئيس الجامعة اللبنانية في حينه. دائرة معارف محمد فريد وجدي، أو كما أطلق عليها دائرة معارف القرن العشرين، وتقع في عشرة أجزاء، كل جزء منها يشغل ثمانمائه صفحة، عدا السابع والعاشر فيتجاوز كل منهما هذا الرقم من الصفحات وقد بوبها ورتبها علي النحو الذي أراده، وتدهشنا معارف هذا الرجل، وتوفره علي البحث والاطلاع، وانتخاب هذه المعلومات الغزيرة التي حشدها في دائرته، وهي بمنزلة قاموس عام مطول للغة العربية والعلوم النقلية والعقلية والكونية وجمع أصولها وفروعها.. ففيها النحو والصرف والبلاغة، والمسائل الدينية، وتاريخ الطرق والمذاهب والتفسير والحديث والأصول، والتاريخ العام والخاص، وتراجم مشهوري الشرق والغرب، والجغرافيا والطبيعة والسياسة والكيمياء، والفلك والفلسفة، والعلوم الاجتماعية والاقتصادية والروحية والطب والفوائد المنزلية، وسائر ما يهم الإنسان في جميع المطالب. وقد أفاض فريد وجدي في أصول الدين الإسلامي، وعلوم اللغة العربية، وشرح بعض الكلمات شرحاً فقهياً، وربما هذ ما تمتاز به دائرته عن دائرة البستاني. دائرة المعارف الإسلامية: وهي موسوعة صدرت باللغات الأوروبية الذائعة: الإنجليزية والفرنسية والألمانية، وأشرف علي تحريرها عدد من المستشرقين مثل فنسنك، وليفي بروفنسال، وهارتماني، وشاخت .. تم تأليفها تحت رعاية الاتحاد الدولي للمجامع العلمية وفي عام 1933 نهض بترجمتها إبراهيم زكي خورشيد وأحمد الشنتناوي، وعبدالحميد يونس، وأعيد طبعها عام 1969. وتتميز هذه الدائرة عن دوائر المعارف الأوروبية الأخري بتخصصها في الموضوعات الإسلامية المختلفة، وقد أضفي عليها المترجمون أهمية أخري، تتمثل في تعليقهم علي بعض ما جاء فيها، وانتدبوا لها من كبار العارفين ما يصحح أخطاءها، والرد علي مطاعن مؤلفيها، وتكملة بعض موادها الناقصة مثل الفصل الذي كتبه شفيق غربال عن الأتراك، وبذلك أصبحت النسخة العربية، من عدة وجوه أوفي من الأصل. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد من وضع دوائر المعارف أو ترجمة لها، وإنما واصل البعض العمل، فصدرت موسوعة «المنجد» والموسوعة العربية الميسرة ودائرة معارف الشعب، والدائرة الأخيرة نشرت منجمة في القاهرة، وصدر منها عدة مجلدات، وهي عبارة عن مقالات في مختلف الموضوعات، كتبت بأقلام بعض المتخصصين، هذا بخلاف دوائر معارف تناولت موضوعات متخصصة مثل «معجم الخريطة التاريخية للممالك الإسلامية» لأمين واصف، و«قاموس الأمكنة والبقاع» لعلي بهجت ومعجم «الأعلام» للزركلي و«أعلام النساء» «لعمر رضا كحالة». ملاحظات جاءت هذه الدوائر أو معظمها نتيجة جهود فردية، لا يسعنا إلا مباركة هذه الأعمال وإكبارها. ولكن مع هذا تتخللها عيوب جوهرية. فنظرا لأن واضعيها أفراد. فقد جاء كثير من موادها موافقا لطبائع مؤلفيها، وتتشابه مع الكتب الموضوعة من عدة نواح، فالموضوعات التي يعرضون لها ليست علي درجة واحدة في وقعها علي نفوسهم، وليست سواء عند الحديث عنها، فمنها ما يتعاطفون معه، ومنها ما يتعقلون إزاءه وهكذا جاءت مسايرة للوجدان الشخصي، أكثر من الاستقلال العلمي، والصحيح أن دائرة المعارف تمد القارئ بالمعارف الرئيسية أو العرض الدقيق من وجهة نظر عامة، وليست من وجهة نظر فردية، هذا من ناحية ومن ناحية أخري دونت مادة هذه الموسوعات حسب ثقافة واضعيها، ومدي إطلاعهم، وإنه من البديهي أن شخصاً واحداً مهما أوتي من الذكاء غير قادر علي استيعاب كل شيء وبخاصة بعد تشعب العلوم، فضلاً عن أن النفس البشرية تميل إلي التعلق بأشياء دون غيرها. فتتعمق فيما ترغب في معرفته، وتلم بالعلوم الأخري إلماماً. ومن هنا نجد أن هذه الدوائر قد اسهبت في موضوع، واختصرت الحديث في موضوع آخر. إذا كان الإلمام بكل جوانب علم فيه مشقات وصعوبات، فما بالنا بتحصيل كل المعارف، ومن ناحية ثالثة فإن الدوائر التي أنشأها أفراد افتقرت أو كادت إلي ذكر المصادر والمراجع، وذكر مورد الكلام مفيد في طمأنة القارئ فيما قرأ، واستطاعته الرجوع إلي المصادر إذا رام التوسع والزيادة ومن ناحية رابعة، وقوف هذه الدوائر عند هذا القدر من المعارف الذي قدمته. دائرة معارف عربية ومن أجل هذا، دعت بعض الأقلام إلي إنشاء دائرة معارف عربية أعمق وأشمل وكان من بين المقترحات أن توضع موسوعة عربية كاملة تترجم عن الإنسكالوبيديا البريطانية وغيرها من المراجع والمعجمات. ولكن هذه فكرة عقيمه لأن كل دائرة معارف أنشئت تبعاً لثقافة القطر الذي كتبت له، نحن نريد دائرة معارف تناسبنا، ونستعين علي ذلك بكل المصادر. فإذا شكلت لجنة علي مستوي رفيع، فعليها أن تضع خطة دقيقة تحدد فيها ميادين البحث، وتسند المواد إلي أهل الاختصاص، وما أكثر الأساتذة والعلماء في الجامعات وفي المجامع العلمية أو من العلماء العرب والمغتربين. علي أن هذه الموسوعة سوف تصبح محدودة القيمة بمرور الأيام، إذا لم نهتد إلي طريقة نجددها بها، بحيث تصبح علي الدوام قادرة علي الاستيعاب والعطاء، وقد رأي البعض أنه يمكن تجديد طبع هذه الموسوعة كل عدة سنوات، أو بإصدار مجلة شهرية قاموسية يدون فيها الحوادث الطارئة، و كل ما يستجد في كل مجال، وإلي جانب دائرة المعارف العامة يمكن أن تنشأ دوائر معارف متخصصة في كل ميدان من الميادين أنه مشروع ضخم، ولكن العزائم القوية، والهمم الغلابة، لا تتهيب عملاً جليلاً كهذا، وبخاصة إذا تعاونت الجامعات والمجامع، وتآزر العلماء العرب، والحكومات العربية لتوفير كل شيء، وتذليل كل صعب.