تعتبر صناعة المعاجم والموسوعات العربية من الصناعات الثقيلة التي يحتاج إعدادها وطبعها إلي جهود متضافرة وميزانية ضخمة. ولأهمية هذه الصناعة في مجال المعرفة عقدت لجنة الكتاب والنشر بالمجلس الأعلي للثقافة، في أواخر أبريل الماضي، ندوة عن هذه الصناعة التي لم تعرفها الثقافة المصرية بالقدر الذي يتناسب مع وزنها ودورها، وآن لها أن تصبح في مقدمة رسالتها. شارك في هذه الندوة عدد كبير من المؤلفين والباحثين والناشرين، عرضوا لماضي هذه الصناعة، وللوضع الراهن لها، وقدموا الاقتراحات التي تنهض بها. وأول ما ينبغي إدراكه أن المؤلفات العربية القديمة التي تحمل معارف عصرها كانت في معظمها أقرب إلي الموسوعات منها للكتب بمفهومها الحديث الذي تقتصر فيه هذه الكتب علي موضوع واحد، ولا تتطرق إلي موضوعات أخري، إلا إذا كان الكتاب تجميعا لمقالات متفرقة. ويمكن أن نذكر من هذه المؤلفات التاريخية في تراثنا العربي، كتب الجاحظ وابن سينا والكندي والفارابي والتوحيدي وابن منظور وما لا يحصي من أعلام هذا التراث. وفي غياب هذا النوع من المؤلفات الموسوعية تكتسب المعاجم والموسوعات في كل الثقافات أهميتها باعتبارها مراجع أساسية لا غني عنها في تغطية كل ميادين المعرفة، وفي التعرف علي واقع الحياة ومستوي التأليف في عصورها، سواء كان تركيزها علي المصطلحات الفكرية والفنية، أو كان تركيزها علي الشخصيات والأحداث والحرف. لا مشروع وعلي الرغم مما يحفل به تراثنا العربي من إنتاج لا يقل في دقته ومنهجه وغناه عما في المكتبة الغربية، فلاتزال الثقافة العربية تفتقد المشروع القومي الذي يدعم هذه الصناعة التي لم يعد الأفراد يستطيعون وحدهم الاضطلاع بها، كما كنا في الماضي، وإنما تضطلع بها المؤسسات ذات الإمكانيات الأقدر والأطول بقاء من الأفراد، علي أن يكتب بلغة عربية مبينة، لا تجعل القراء يحاصرهم الشك في أنها مؤلفة، ويظنون أنها مترجمة بتصرف، أو علي الأقل متأثرة بشكل واضح بالمصادر الأجنبية. وهذا ما طالبت به الندوة في توصياتها التي دعت فيها الدولة وهيئاتها الثقافية المختلفة، مثل هيئة الكتاب ودار الكتب والمؤسسات الصحفية والجامعات، لإصدار هذه الموسوعات والمعاجم، الورقية والإلكترونية، وخصت منها بالذكر موسوعات عن الحضارة المصرية القديمة، والإسلامية، والقبطية، جنبا إلي جنب العناية بترجمة الموسوعات العالمية، وأشهرها الموسوعة البريطانية والموسوعة الأمريكية، واستكمال ترجمة دائرة المعارف الإسلامية التي صدرت في الغرب كاملة بأكثر من لغة، وبأكثر من طبعة، علي حين أنه لم تكتمل إلي اليوم ترجمتها إلي اللغة العربية التي بدأت في 1933 ونحن في 2010!. ودائرة المعارف الإسلامية تعد أوفي مرجع عن الحضارة الإسلامية بكل مكوناتها وتجلياتها وأعلامها، وقد وضعها بالإنجليزية عدد من كبار المستشرقين في العالم، وامتازت الأجزاء التي نشرت منها بالعربية بما تتضمنه من تعليقات وشروح بأقلام قمم الفكر والأدب في مصر والشرق العربي، وهي شروح وتعليقات لا تقل في عمقها وقيمتها العلمية عن نصوص المتن إن لم تزد، كما نجد في التعليق الوافي الذي كتبه أحمد حسن الزيات عن «ألف ليلة وليلة». وتذكر الندوة أن معجم أعلام الفكر الإنساني الذي أعدته لجنة الفلسفة في المجلس الأعلي للثقافة منذ سنوات لم يصدر منه إلا الجزء الأول فقط. ولأن هذا النوع من التأليف الجمعي بحاجة ماسة إلي من يحميه وينفق عليه بسخاء، دعت الندوة إلي حفظ حقوق الملكية الفكرية للكتاب والمترجمين، وإلي وضع قاعدة بيانات إلكترونية حتي يسهل الاطلاع عليها. وعن المقارنة بين الموسوعات والمعاجم الورقية والإلكترونية انحازت الندوة بالطبع للإلكترونية لديناميكيتها التي تتيح لها الإضافة والتحديث بسهولة، وفقا لمستحدثات العلوم والمعارف التي يتدفق بها عصرنا. وهذه ميزة لا تتوافر للمطبوعات الورقية التي لا يمكن الإضافة إليها إلا كل عدة سنوات، بعد أن تنفد الكميات المطبوعة منها. غير أن تجاوز هذه الفجوة القائمة بيننا وبين التكنولوجيا، أو بيننا وبين الثورة الصناعية التي لا تستخدم الورق والقلم، يحتم أن تكون لهذه الصناعة خططها وميزانياتها التي تؤدي رسالتها في تطوير المجتمع وتثقيفية. مجمع اللغة ومع أن مجمع اللغة العربية ليس محورا من محاور الندوة، فقد تعرضت له في أكثر من جلسة، وأخذت عليه محافظته الشديدة وإيقاعه البطئ وعدم توافر مطبوعاته خارج مقر المجمع في الزمالك، وغيبة الشفافية في كل ما يتصل به من شئون إدارية وغير إدارية، كأنه قلعة محصنة لا تخترق، كما وصفها بازدراء أحد الصحفيين المشاركين في الندوة، الذين فشلوا في اختراق القلعة لأداء عمله، ورد هذا الوضع إلي ضخامة المرتبات والمكافآت التي يحصل عليها الأعضاء وكل من في المجمع، دون أن يؤدوا عملا، ليس خوفا من الحسد، وإنما خوفا من أن تثير المعلومات عن المجمع طمع الطامعين. ولتلافي هذا الوضع الذي لا يليق بمصر وبتاريخها الحضاري، حثت الندوة مجمع اللغة العربية في توصياتها علي إصدار معاجم وموسوعات جديدة ورقية وإلكترونية، في فروع المعرفة المختلفة وليس اللغوية وحدها، وإعادة طبع ما نفد من إصداراتها السابقة، بعد تحديثها بما جد في اللغة والمعرفة مع الزمن، كيلا ينأي مستخدمها عن العصر. وإحياء للتواصل الثقافي بين مصر ولبنان ناشدت الندوة وزارة الثقافة المصرية إعادة طبع دائرة المعارف اللبنانية للمعلم بطرس البستاني التي شاركت مصر في القرن التاسع عشر في طبع أحد أجزائها، لما تحمله هذه الدائرة من قيم ومبادئ وأفكار إنسانية متحضرة ترفع من شأن المرأة وحقوق الإنسان، تجعل أمر الفرد بيده، وتفصل الدين عن الدولة، وتغرس التسامح في المجتمع المدني الذي يخضع للقوانين الوضعية لا الغيبية. ولا شك أن الندوة كان يمكن أن تكون أكثر غني وارتباطا بالواقع الثقافي لو أنها قدمت توثيقا شاملا للمعاجم والموسوعات العربية، بما فيها ما يتصل منها بالتراث الشعبي الذي تجاهلته مع أنه جزء ثمين من نسيج الثقافة العربية وجوهرها الحي.