قال السيسى: إنه ليس سياسيًّا.. هل هذه ميزة أم عيب؟ ربما تكون ميزة إذا اعتبرت أنه ليس منطلقًا من انحياز حزبى أو أسير لتصور أيديولوجى، هو قائد دفع به سُلَّم الترقى داخل المؤسسة العسكرية بمواصفاتها ومعاييرها إلى قمة هذه المؤسسة، ويملك ما يملكه قادة الجيش من تصورات سياسية عامة ومنطلقات وطنية، ليست ميالة لرؤية حزبية، ولا تسمح بالتحزب. وإذا ربطت ذلك بتأكيده أكثر من مرة أنه لا ينوى تأسيس حزب أو الاعتماد على تيار بعينه، فهو يواصل طرح نفسه كرجل دولة خارج من قلبها الصلب، يصلح رئيسًا لكل المصريين، وحكمًا بين السلطات، خصوصًا فى ظل دستور يجعل الرئيس ليس محورًا لكل شىء. وفى حواره مع الزميلين ياسر رزق ومحمد عبد الهادى علام، يتحدث لأول مرة عن طبيعة دوره فى الدستور، وهو يشرح أن تشكيل فريقه السياسى لا بد أن ينسجم مع الدور المطلوب من مؤسسة الرئاسة فى الدستور. هذه ميزة أن يكون الرئيس غير سياسى، مهمته إنفاذ الدستور وضبط إيقاع النظام السياسى، لكن هل هذا هو المطلوب من الرئيس والمنتظر منه شعبيًّا؟ وهل هذا هو ما يطرحه السيسى نفسه من أفكار ورؤى عبر حوارات متتالية عن خطط وإنجازات وتحفيز نمو، وإعادة تخطيط، واستعادة الدولة ومقوماتها وقدراتها، واستخدام هذه المقومات والقدرات فى فرض القانون وضبط الأسواق وقيادة التنمية والاستثمار؟ مهمة السيسى التى يحددها لنفسه، قبل أن تتوسع حولها آمال المواطنين، وإن كانت فى حاجة إلى رجل الدولة القادر على إدارة المؤسسات والبيروقراطية المصرية وتطويعها وإعادة توجيهها واستخدامها، لا تبتعد عن السياسة، وتتطلب منه أن يكون سياسيًّا حتى وإن لم يرد، وأن يحترف ذلك. يبنى السيسى كثيرًا على نجاحه فى مهمته بالقوات المسلحة.. «استعادة الجيش ورفع معنوياته وإعادة اعتباره ورفع كفاءته القتالية»، وهو يعتقد أنه يستعد لخوض مهمة مماثلة، يتسلم أمانة وطن فى وضع مشابه لوضع الجيش حين تولى قيادته، لكنه يجانبه الصواب إن خاض مهمته الجديدة بذات أدوات المهمة السابقة، أو كما ردد كثيرًا فى حواراته: «عملتها قبل كده فى الجيش ونفعت». الفارق بين المهمتين، ليس فقط فى أن المهمة الجديدة أصعب وأثقل، وإنما فى أدوات صاحب المهمة فى الحالتين، فى الجيش كان السيسى قائدًا عامًّا لمؤسسة منضبطة بطبيعتها تحكمها قوانين وقواعد تجعل كلمته نافذة بذاتها وقراراته نهائية بمجرد صدورها، قواعد تسمح بالمشاورات، لكنها لا تسمح بالتباينات، تحدد مفهومًا ثابتًا وموحدًا للمصلحة الوطنية، لا يمكن أن يخضع لوجهات النظر. ومصالح وأهداف واحدة، تتحرك خلفها المؤسسة ككتلة واحدة، أو كما يقول بنفسه: «مؤسسة على قلب رجل واحد». وفى المهمة الثانية مجتمع مختلف، متعدد القوى، وغارق فى التباينات، ولا اتفاق فيه على مفهوم واحد، حتى النظر إلى المصلحة الوطنية تتباين الزوايا التى ينظر من خلالها كل طرف لهذه المصلحة، مجتمع لا يتلقى أوامر، وتجاوز مخاوف الماضى، ولا يتحرك ككتلة واحدة. وأدوات الرئيس فى هذا المجتمع غير أدوات القائد العسكرى فى مجتمع الجيش، صلاحياته محددة بحكم الدستور، ودوره مرسوم فى مواده، وقواه متعددة ومتنوعة، وتشاركه مؤسسات أخرى القرار، ليس من باب الشورى غير الملزمة، وإنما من باب ندية الشركاء، حيث يملك كل شريك فيهم حق «الفيتو» على قرارات الآخرين. مهمة الرئيس إذن هى إدارة هذا التنوع، بأحزابه وحركاته وقواه وطبقاته وفئاته وجماعاته المهنية، المؤيدين له والمعارضين، وهى مهمة مختلفة تمامًا عن مهمة قائد عسكرى وسط قواته. هذه المهمة تحتاج إلى أفق سياسى ومهارات مختلفة، تفرض على السيسى أن يكون سياسيًّا، وأن يخوضها بأدوات السياسى، ومهاراته فى الاستماع والعرض والإقناع والحوار والتعاطى مع الأزمات فى إطار قانونى ودستورى، ليحقق أهدافه وخططه، ويوفر لها المناخ الملائم للنمو. إذا مارس السيسى الحكم بذهنية القائد العسكرى فلن ينجح فى تنفيذ شىء مما يطمح إليه، إلا إذا «عسكر المجتمع كله»، لكن ذهنية السياسى أكثر اندماجًا واستيعابًا للتنوع، وعندما يكون سياسيًّا بمفهوم وثقافة رجل الدولة، يكون قد جمع الحسنيين.