ليست مصادفة إذن أن تجرى واحدة من أكبر الصحف الأمريكية وأكثرها قربًا من الدوائر السياسية وهى «الواشنطن بوست»، حوارًا مع الرجل القوى كما يحبون أن يصفوه، مدحًا أو ذمًّا، الفريق أول عبد الفتاح السيسى النائب الأول لرئيس الوزراء ووزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة المصرية، وأن يتزامن نشر ذلك الحوار مع تواتر الموفدين من الإدارة الأمريكية على القاهرة، بدءًا بنائب وزير الخارجية وليام بيرنز، ووراءه عضوان من الكونجرس يمثلان الحزبين الرئيسيين الديمقراطى والجمهورى، وسبقت ذلك كله تصريحات جديدة للخارجية الأمريكية تصف ما فعله الجيش المصرى باستعادة الديمقراطية، ثم يصل فجأة وزير الخارجية القطرى إلى القاهرة. الحوار أُجرى قبل أيام وعلى وجه التحديد يوم الخميس الماضى فى مقر وزارة الدفاع بكوبرى القبة، واستمر قرابة الساعتين، ولا شك أن الإدارة الأمريكية أحيطت علمًا بفحواه قبل إيفادها بيرنز إلى القاهرة، والذى وصل مساء الجمعة فى زيارة ليوم واحد، لكنه مدّدها يومًا آخر، ولم يعلن هل مدّدها ليلتقى الرئيس السابق كما فعلت آشتون أم ليواصل اجتماعاته مع قادة حلفائه الإخوان من مصر ومن قطر، لكن المؤكد أن السيسى أعلنها فى وجه أوباما، «مصر خرجت من تحت عباءتكم فكّروا فى صيغة جديدة للعلاقة يرتضيها الشعب المصرى، ولا تضعوا مصالحكم بالتعارض مع إرادة المصريين».
السيسى فى حواره مع «الواشنطن بوست»، سبقه حوار نائب الرئيس د.محمد البرادعى، مع ذات الجريدة، والذى أثار جدلًا بسبب تحريف بعض إجاباته، لكن السيسى ورغم ما أظهره من حنكة سياسية لفتت الانتباه، تجاوز حذر السياسى بجرأة المقاتل، فجاءت إجاباته على كل الأسئلة، لتدين دون مواربة ممارسات أوباما والإدارة الأمريكية ضد إرادة الشعب المصرى، وتؤكد إرادة الملايين الذين يخرجون إلى الشوارع منذ 30 يونيو بانتهاء عهد التبعية الخانعة لأمريكا.
الحوار ركّز على أسئلة يريد الأمريكيون إجابات معلنة أو اعترافات من السيسى بشأنها، فأعطاهم ما أرادوا وأخذ ما يريده، ورغم مباشرة الأسئلة والإجابات، فإن الحوار كشف نقاطًا تلاعب بها الإدارة الأمريكية النظام المصرى الحالى، بحكومته وشعبه وجيشه، أرادوا أن يعرفوا عند أى نقطة تقف تطلعات السيسى الرجل القوى، وإلى مدى تأثر بشعبيته الجارفة والتأييد الواسع له، فأعطاهم إجابات ابتعدت عن التعالى والعجرفة واتسمت بالتواضع، أرادوا أن يتلمّسوا هل سيواصل السيسى ومن ورائه مصر الجديدة القبول بوضع التابع الخانع لينعموا برفاهية العيش تحت الوصاية الأمريكية، فأعطاهم نفس إجابات الملايين التى خرجت لتفويضه وتوعّد الإدارة الأمريكية بعهد جديد لن ينسى فيه المصريون وقوفها ضد إرادتهم.
متى كانت آخر مرة توعد فيها رئيس مصرى الولاياتالمتحدة بأن ما فعلته ضد المصريين لن ينسوه لها؟ ليس أقل من أربعين عامًا وربما قبل حرب أكتوبر المجيدة التى وقفت فيها أمريكا بجانب إسرائيل، بل وحاربت معها على أرض سيناء ضد الجيش المصرى الذى انتصر فى النهاية وحرر أرضه واستردّها.
ولم يفته أن يمر سريعًا على حديث المعونات الذى صدّعت به الإدارة الأمريكية رؤوس المصريين وعايرتهم به، ليقول لهم أنتم لم تقدموا أى دعم للمصريين منذ ثورتهم فى يناير 2011، بل وزاد ليذكرهم كيف حتى خلال عام من حكم الرئيس السابق لم يبادروا لمساندة مصر فى أثناء معاناتها أزمة اقتصادية وأزمة فى توفير احتياجاتها الضرورية، وسألهم فى اتهام «هل ستواصلون إدارة ظهوركم للمصريين؟».
السيسى أيضًا واجه إدارة أوباما بمسؤوليتها المباشرة عما يحدث فى مصر وواجهها بما يعرفه الجميع وتنكره الإدارة الأمريكية، والعلاقات الوثيقة بينها وبين الإخوان والتى تضعهم موضع الاتهام فى أعين المصريين مرة لأنهم يؤيدون ممارساتهم العنيفة ومرة لأنهم لا يستخدمون نفوذهم وعلاقاتهم بهم لوقف مسار العنف الذى يسير فيه الإخوان، ومع ذلك يعلن الأمريكيون تمسّكهم بالحل السلمى.
وكأنه يقول له «بدلًا من أن تزعم حرصك على سلامة مصر وتصرخ لحشد الغرب ضد الشعب المصرى استخدم نفوذك مع حلفائك الإخوان الذين يمارسون الإرهاب وأنت تزعم أنك تحارب الإرهاب».
أراد الأمريكيون أن يعرفوا هل ستدفع المؤسسة العسكرية بمرشحها السيسى للرئاسة، ومن ثَم يعود الجيش ليحكم، بعد الدعوات التى خرجت من الداخل لتؤيد ترشح السيسى، فأعطاهم تأكيدات تتعلق بموقفه الشخصى من حب الناس له وعدم تطلعه أو عدم امتلاك حب السلطة داخله، فعادوا للسؤال المؤرق بصيغة أخرى لتسأل عن موقفه من مدنية الدولة وتطلب منه ضمانات أن لا يحكم الجيش فأعطاها درسًا بكلمته «الجيش المصرى مختلف عن كل جيوش العالم». وبكل تأكيد لم تستوعب مراسلة الصحيفة مغزى ما قاله السيسى، لأنها فهمت أنه لم ينفِ بينما قصد السيسى أن الجيش وطنى وأن لاءه لبلده وشعبه، وتحرّكه لمصلحة الوطن، لا أهواء وميول ونزعات للحكم توجد عنده.
لكنه أعطاهم ما يريدون مكررًا أن الدولة ستسمح بوجود مشرفين ومراقبين للانتخابات القادمة من أى مكان، ليقطع الطريق ويتحدث نفس لغتهم المعلنة.
اللافت أن السيسى كما فضح علاقة الإدارة الأمريكية بالإخوان، فضح أيضًا مخططات الأخيرة التى ترجع لأيديولوجيا تقوم على فكرة العصبية للجماعة لا للدولة، وبذلك أسدى اتهامًا مباشرًا للإدارة الأمريكية بدعم نظم غير وطنية تعمل على تقويض مفهوم الدولة على عكس ما تزعم وتتشدق.
على جانب آخر، أظهر مدى الأمانة والشرف اللذين تعاملت بهما المؤسسة العسكرية مع الرئيس السابق رغم انتمائه إلى هذه الأيديولوجيا الشاذة، وكيف أسدى له النصح تكرارًا وحذّره قبل عزله بأربعة أشهر أن هذه الأيديولوجيا ستفصله عن شعبه وتجعله رئيسًا لأنصاره وأتباع الجماعة فقط لا للمصريين.
ورغم أن المصريين فى بحثهم عن الشخصية الوطنية المحبة لشعبها وبلدها جعلوا صور السيسى تصاحب صور الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، لكن السيسى قدم لهم سمة أخرى تؤيد إحساسهم الفطرى وهى الانتصار لكرامة الشعب وعدم قبول مبدأ الخنوع حتى للقوى الكبرى، فالسؤال الذى وجه له عن تعليق صفقة F16 كانت الإجابة النموذجية له على مدى أكثر من ثلاثين عامًا سابقة شهدت ضغوطًا مشابهة على الجيش فى بعض الأحيان، كانت إجابته النموذجية لن تخرج عن «الإشادة بالعلاقات العسكرية والتعاون المتبادل بين الجيشين المصرى والأمريكى وأن ذلك لا يؤثر على متانة العلاقات العسكرية المميزة وأن برامج التعاون مستمرة ولدينا تبادل خبرات واسعة ومصالح إقليمية».
لكن السيسى أعطى إجابة مقتضبة عندما سُئل: هل حزنت لتعليق الصفقة؟ فأجاب بلا مواربة «نعم.. فهذه الطريقة لا تُعامل بها مؤسسة عسكرية وطنية (الجيش المصرى)». فأعطى رسالة نارية بأن الجيش المصرى شديد الاعتداد بنفسه ومهما كانت أساليب السياسة ومبرراتها لا يقبل التعامل معه بأقل من مكانته، لأنه جيش وطنى لا جيش مرتزقة يمنح ويمنع حسب الأهواء وعلى الإدارة الأمريكية أن تعيد ترجمة رسائل الشعب المصرى التى فوّض السيسى لنقلها للعالم إذا كانوا لم يروا عشرات الملايين فى الشوارع كما سألهم السيسى فى إحدى إجاباته.
بدأ الحوار بتوضيح من السيسى عن نشأة المشكلة بين الرئيس السابق والشعب وأسبابها من وجهة نظره، ثم دار الحوار كما نشرته الصحيفة فى صيغة سؤال وجواب.
السيسى: المعضلة بين الرئيس السابق والشعب نشأت بسبب مفهوم جماعة الإخوان عن الدولة والأيديولوجيا التى تبنّوها لبناء البلد والتى أساسها إحياء إمبراطورية الخلافة الدينية. هذا ما جعل الرئيس السابق محمد مرسى ليس رئيسًا لكل المصريين بل رئيس يمثّل أتباعه وأنصاره.
الصحيفة: ومتى أصبح ذلك واضحًا لك؟
السيسى: كان واضحًا من اليوم الأول. يوم التنصيب عندما بدأ بمهاجمة القضاء بدلًا من معاملتهم بالشكل اللائق. فخبرة الإخوان بالحكم متواضعة للغاية، إن لم تكن منعدمة. والجيش تعامل مع الرئيس بكل الاحترام الواجب تجاه رئيس اختاره المصريون.
الصحيفة: هل كنت تسدى للرئيس السابق النصح حول أزمة إثيوبيا وسيناء على سبيل المثال وكان يتجاهلك؟
السيسى: كنا حريصون ومصرون على نجاحه، لو أردنا معارضته أو أن لا نسمح له بأن يأتى للحكم كنا فعلنا «أشياء» مع الانتخابات، ومعروف أنه كان مألوفًا تزويرها فى الماضى. لسوء الحظ الرئيس السابق صنع معارك مع كل مؤسسات الدولة. وعندما يدخل أى رئيس دولة فى صراع مع كل مؤسسات الدولة تكون فرصة نجاح هذا الرئيس لا تُذكر. على جانب آخر، ومن جهته، كان الرئيس يحاول حشد مؤيديه من العصبية للجماعة.
الصحيفة: من أين؟
السيسى: لديهم وجود دولى فى أكثر من 60 دولة فى العالم، أعنى جماعة الإخوان المسلمين، والفكرة التى تجمعهم سويًّا ليست الوطنية بل العصبية الدينية وهذا ليس مدلول الدولة، هذا فقط أيديولوجيا ترتبط بالكامل مع مفهوم التنظيم.
السيسى: نحن نتعجب ونتساءل: أين دور الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبى وكل القوى الدولية الأخرى التى تهتم بالأمن والسلامة ورفاهية مصر؟ وهل قيم الحرية والديمقراطية تمارس حصريًّا فى بلادكم بينما الدول الأخرى ليس من حقها أن تمارس نفس القيم وتتمتع بنفس البيئة المواتية؟ هل رأيتم عشرات الملايين من المصريين ينادون بالتغيير فى التحرير وباقى الميادين؟ وما استجابتكم لهذا؟
لقد تركتم المصريين وأدرتم ظهوركم، والمصريون لن ينسوا لكم ذلك. الآن هل تريدون مواصلة إدارة ظهوركم للمصريين؟ يجب أن لا تتعارض المصالح الأمريكية مع الإرادة الشعبية للمصريين. وكنا دائمًا نطلب من المسؤولين الأمريكيين أن يسدوا النصح للرئيس السابق لتجاوز مشكلاته.
السيسى: النتيجة واضحة. أين الدعم الاقتصادى من الولاياتالمتحدة؟ حتى خلال العام الماضى عندما كان الرئيس السابق فى منصبه، أين كان الدعم الأمريكى لمساعدة البلاد لاستعادة اقتصادها وتغطية احتياجاتها الضرورية.
الصحيفة: هل تنوى الترشح للرئاسة؟
السيسى: أود أن أقول إن أهم إنجاز فى حياتى هو تخطى الظرف الحالى، لنضمن أن نعيش بسلام وأن نسير فى خارطة المستقبل وأن نستطيع تنفيذ الانتخابات القادمة دون إراقة نقطة واحدة من دماء المصريين.
الصحيفة: لكن هل ستترشح؟
السيسى: يبدو أنك لا تستطيع تصديق أن هناك بعض الناس ليس لديهم شبق السلطة.
الصحيفة: وهذا أنت؟
السيسى: نعم، إن آمال الشعب هى آمالنا «الجيش». وعندما يحبك الناس فهذا أكثر شىء مهم عندى.
الأم ومعاناة الناس عديدة للغاية وكثير من الناس لا يعرف هذه المعاناة وأنا أكثر دراية بحجم المشكلات فى مصر، لهذا أسألكم أين دعمكم؟
الصحيفة: هل شعرت أنه ستقع حرب أهليه لو لم يتدخل الجيش؟
السيسى: توقعت حال إن لم نتدخل كانت ستتحول إلى حرب أهلية وقلت هذا الكلام لمرسى قبل رحيله بأربعة أشهر.
ما أريدك أن تعرفه وأن يعرفه أيضًا القادة الأمريكيون أن هذا الشعب شعب حر ثار ضد حكم سياسى ظالم وهذا الشعب الحر يحتاج مساندتكم.
الصحيفة: ألا يحذر الأمريكيون الحكومة الانتقالية من أى صدام أهلى أو إراقة المزيد من الدماء؟
السيسى: الإدارة الأمريكية لها تأثير قوى مع جماعة الإخوان، وأنا أرغب أن تستخدم الإدارة الأمريكية هذا التأثير لحل الصراع، وأيًّا كان مَن سينظف هذه الميادين ويفض الاعصامات فلن يكون الجيش، هناك شرطة مدنية وهى مكلفة بهذه المهام. وفى 26 يوليو خرج أكثر من 30 مليون مصرى للشوارع ليعطوننى تأييدهم وهذه الملايين تنتظر منى أن أفعل شيئًا.
الصحيفة: كيف تؤكد للولايات المتحدة أن الجيش لا يريد أن يحكم مصر وأن الجيش يريد أن يعود لثكناته؟ السيسى: فلتسجّل كلماتى وخذها بجدية: الجيش المصرى مختلف عن كل جيوش العالم.
الصحيفة: هل حقًّا تريد حكمًا مدنيًّا «هنا»؟
السيسى: نعم بكل تأكيد.
الصحيفة: وفى الانتخابات المستقبلية، هل ستقبل مصر إشرافًا دوليًّا؟
السيسى: سنقبل مراقبين ومشرفين دوليين من أى مكان فى العالم. المصريون يتطلعون إليكم أيها الأمريكيون فلا تخيبوا آمالهم ولا تديروا ظهوركم لهم.
الصحيفة: هل أغضبك تعليق صفقة F16؟
السيسى: نعم، فهذه ليست الطريقة التى تُعامل بها مؤسسة عسكرية وطنية.
الصحيفة: هل اتصل بك الرئيس أوباما؟
السيسى: لا.
الصحيفة: هل اتصل بك أى شخص آخر، وزير الخارجية جون كيرى أو وزير الدفاع تشاك هاجل؟