قطب.. لص الأفكار وسارق الكتب العربية والمترجمة الأمر فى الدراسات الإسلامية يختلف أو يجب أن يكون مختلفا عن الإبداع الأدبى، فى الإبداع الأدبى يمكن أن يتوارى ضعف الموهبة وقلة الخبرة وضعف الثقافة خلف الأسلوب الإنشائى، لكن فى مجال الدراسات لا بد من ثقافة واسعة ورجوع إلى المصادر الأولى أو المباشرة، فضلا عن المراجع وقوة المنطق والحجة، حتى يتمكن الباحث من الوصول إلى النتائج والاقتراحات التى يريد أو يسعى إلى إثباتها والكشف عنها. وفى معظم كتبه الإسلامية والبحثية، سوف نجد أن الكاتب لا يذهب إلى المصادر الأولى فى الموضوع الذى يتناوله، وأحيانا يكون اعتماده على مصدر ثانوى أو مرجع بعينه، يستند إليه استنادا كليا، وينقل عنه صفحات مطولة، يحدث هذا فى الموضوعات التى يجب أن يلجأ فيها إلى مصادر عربية وإسلامية أو مصادر غربية. فى كتابه «نحو مجتمع إسلامى»، حمل الفصل الأول عنوان «المستقبل للإسلام»، استند فيه إلى نبوءة للفيلسوف الإنجليزى المعاصر برتراند راسل عن انتهاء عصر سيادة الرجل الأبيض، وينقل من راسل قوله «لقد انتهى العصر الذى يسود فيه الرجل الأبيض، وبقاء تلك السيادة إلى الأبد ليس قانونا من قوانين الطبيعة، وأعتقد أن الرجل الأبيض لن يلقى أياما رضية كتلك التى لقيها خلال أربعة قرون». ويؤكد سيد قطب أن هذه النبوءة صحيحة، وبنى سيد قطب أحلامه وتوقعاته على هذه النبوءة، حيث إن الرجل الأبيض أو الحضارة الغربية فى دور الانزواء أو الانهيار فإن الإسلام هو البديل القادم. المهم فى الأمر أن نبوءة راسل تلك كانت عبارة عن خبر نشر بالصفحة الأولى من «الأهرام»، عدد 9 أغسطس سنة 1951، وقد ردد قطب هذه النبوءة، وأخذ بها فى عدد من كتبه، وليس ذلك الفصل من كتابه «نحو مجتمع إسلامى»، وما لم يتوقف عنده أنه نقل من الخبر الفقرة الأخيرة فقط، ولم يعتمد بقية الخبر، لأن بقية الخبر تنفى وتكذب توقعات سيد قطب عن أن الإسلام هو البديل القادم لحضارة الغرب والرجل الأبيض، بل وعن فكرة انتهاء عصر الرجل الأبيض وسيادته. والموضوع أن راسل دعى إلى حفل غداء فى مقر اتحاد الصحفيين الأمريكيين بلندن يوم 8 أغسطس 1951، وألقى كلمة فى هذا الحفل، اختار لها «الأهرام» عنوانا مثيرا هو «انتهى عصر الرجل الأبيض»، لكن مضمون الخبر وما ورد فى الخطاب غير ذلك، كانت فكرة راسل أن دور الرجل الأبيض يتراجع فى آسيا، وقال بالنص «إن الروسى هو الرجل الأبيض الوحيد الذى تسنح له الفرصة لنشر نفوذه فى آسيا». الواضح من سياق الخبر أن راسل كان يحذر من تراجع المعسكر الرأسمالى أمام المعسكر الاشتراكى، وكان ذلك فى إطار الحرب الباردة، وتقدم الأفكار الاشتراكية، التى هى أيضا نتاج الحضارة الغربية والرجل الأبيض، يقول باقى الخبر على لسان رسل «الشعوب الآسيوية تمقت الاستعمار الأبيض، وهم لا يعتقدون أن للكرملين غايات استعمارية، ولأنهم لم يجربوه، بينما رزحوا أجيالا طويلة تحت سلطان الرجل الغربى، وأصبحوا يكرهون تلك التجربة، ولهذا لست أعتقد أن للدولة الغربية فرصة ما فى آسيا، لكنى أعتقد أن الهند قد تعيش فى توافق مع العالم الغربى». هو هنا يتحدث عن الجانب الاستعمارى للرجل الأبيض، لكن الرجل الأبيض (الروسى) له مستقبل فى آسيا، بينما تبقى الهند فى توافق مع الغرب، لكن ماذا عنا نحن؟ يقول رسل «أما العالم العربى بما فيه مصر والباكستان فستنحاز إلى المعسكر الشيوعى». ولم يكن راسل يعنى انهيار حضارة الغرب وإفلاسها على النحو الذى استنتجه سيد قطب وتبناه، بل كان يرى أن المستقبل فى يد أمريكا، إذ يقول «وفى رأيى أن التطورات الأخيرة جعلت نشوب حرب عالمية الآن أمرا غير محتمل وتسلح أمريكا هو العامل الأول فى صون السلام». والمعنى أننا بإزاء قراءة مجتزأة للخبر، حول محاضرة راسل، وأما أنه قرر الاستشهاد بها والبناء عليها فى عدد من كتبه فقد كان عليه أن يحاول الرجوع إلى النص الكامل للمحاضرة، ولم يكن ذلك صعبا، فضلا عن أن يحاول العودة إلى بعض كتب راسل، وعدد منها كان مترجما إلى العربية، ليعرف منطقه وتفكيره، فالرجل كان يرى أن المستقبل فى المنطقة العربية للاتحاد السوفييتى لا للولايات المتحدة، وفى ما بعد سوف نعرف من كتاب «من يدفع للزمار؟» أو «الحرب الباردة الثقافية» الذى ترجمه إلى العربية طلعت الشايب، أن راسل فى ذلك الوقت كان منحازا بالكلية إلى الجانب الأمريكى، وأنه لم يكن بعيدا عن تأثير المخابرات المركزية، سواء كان يعلمه أو لم يكن. هذه القراءة المجتزأة والقاصرة للخبر وللمحاضرة وعدم العودة إلى بقية أعمال راسل، هى طريقة سيد قطب فى معظم كتبه وأعماله، الوصول إلى استنتاجات وأفكار دون مقدماتها أو ليست على وفاق مع المقدمات، وهكذا فإن استنتاجه عن تراجع وإفلاس الحضارة الغربية وتقدم الإسلام عليها، لم تتحقق، ما زالت الحضارة الغربية تتسع وتجدد نفسها، وصار الكثير من قيمها عالمية، مثل الحريات والديمقراطية ورفاهية الإنسان، بل إن معظم الشعوب الإسلامية تكافح وتناضل كى تنعم بالحرية وبالديمقراطية كما تطبقها الدول الغربية، ومن يتابع الدول الإسلامية التى حققت تجارب مهمة فى التنمية والنهوض مثل ماليزياوتركيا، فإن ذلك يعود إلى تبنى كل منهما النظام الرأسمالى فى الاقتصاد والديمقراطية كنظام سياسى، بل إن تركيا تنص فى دستورها على أنها دولة علمانية، وهى تسعى للانضمام الرسمى إلى الاتحاد الأوروبى، أى نادى الحضارة الغربية، وقد نجحت تركيا فى أن تكون عضوا فى حلف الناتو. غير ذلك فإن الدول الإسلامية التى انكفأت على فهم خاص للإسلام تقاطع معه العصر الحديث بكل منجزاته صارت دولا فاشلة مثل الصومال وأفغانستان، الأولى تفتت وتشرذمت، والثانية خضعت للاحتلال وللتدخل العسكرى، وأكثر من ذلك فإن الجماعات والتنظيمات التى تبنت تصورات متشددة للإسلام ومارست العنف، أدت إلى حملة عالمية واسعة ضد الإسلام ذاته. والمعنى فى كل هذا أن نبوءة برتراند راسل، كما فهمها سيد قطب، وبنى عليها توقعاته، لم تصدق، فما زالت حضارة الرجل الأبيض، الحضارة الغربية، هى التى تسود العالم، وتجدد نفسها وتتسع رقعتها، حتى أدمجت «الرجل الأسود» فيها، ورأينا الرئيس أوباما يقود، هذه الحضارة، من خلال رئاسته الولاياتالمتحدة، وهو، بالمعنى الحرفى، ليس رجلا أبيض، هو ابن رجل إفريقى من كينيا، لكنه نما داخل حضارة الرجل الأبيض، وبينما تمتد هذه الحضارة فإن ما توقعه قطب من ظهور وتقدم الإسلام كقوة روحية بديلة، لم تثبت. لقد كان سيد قطب مفتونا بهذه النبوءة، لذا وجدناها تلح عليه فى أكثر من كتاب، حتى الجزء الذى تحدث فيه راسل عن بلدان العالم العربى، خصوصا مصر سوف ينحاز إلى الاتحاد السوفييتى راح سيد قطب يفنده ويختلف معه. وبغض النظر عن النبوءة ومصداقيتها، فلو أن قطب ألقى إطلالة سريعة على أفكار راسل وسيرته فربما أعاد النظر فى تلك النبوءة، ولو أنه أطل على الفكر الغربى لتبين أن الحديث عن تراجع أو انهيار الحضارة الغربية ازداد بعد الحرب العالمية الأولى ثم الحرب العالمية الثانية، قدم الفيلسوف الألمانى شبنجلر نظرية كاملة فى هذا الصدد، وهذه كلها آراء وأفكار ظهرت مع الأزمة النفسية التى أحدثتها الحرب العالمية الثانية ودمار أوروبا، فضلا عن تقدم روسيا والأفكار الماركسية، ونسى أن ماركس أوروبى، وأفكاره نتاج تلك الحضارة، ومع ذلك فقد تجاوز الغرب لحظة الأزمة تلك، وانطلق ليسود العالم، وتظهر أفكار من عينة نهاية التاريخ. بنى سيد قطب على نبوءة راسل، كما فهمها هو، عدة كتب من كتبه، مثل «المستقبل لهذا الدين»، ومثل «معركة الإسلام والرأسمالية»، وكذلك «نحو مجتمع إسلامى». وكان سيد قطب قد بدأ كتابه «نحو مجتمع إسلامى» فى المقدمة، الفقرة الثالثة منها، مستشهدا بنص منقول عن ج. ه. دينسون فى كتابه «العواطف كأساس للحضارة»، وهو نص طويل نوعا ما، يتناول الموقف الحضارى فى العالم قبل ظهور نبى الإسلام محمد، صلى الله عليه وسلم، مباشرة، والحق هناك عديد من المراجع تحدثت باستفاضة عن تلك اللحظة، سواء بالعربية أو بغير العربية، فى ثقافتنا العربية لدينا عديد من كتب المؤرخين المسلمين، وبغير العربية هناك أعمال نفر من المستشرقين وغيرهم من مفكرى ومؤرخى الغرب، المهم أن سيد قطب وقع اختياره على ذلك النص من ذلك الكتاب، ولم يحدثنا عنه، هل عاد إليه باللغة الإنجليزية أم أن الكتاب ترجم إلى العربية، لم يقل للقارئ شيئا، وتركه هكذا مع نص معلق، لا يمكن للقارئ والراغب فى مزيد من المراجعة والاطلاع من العودة إليه. لكن هذا النص نفسه، وعن ذلك الكتاب يعاود الظهور مرة أخرى فى الكتاب نفسه «نحو مجتمع إسلامى»، دون أى إضافة عما ورد فى المقدمة، سوى أنه يضع عنوان الكتاب بالإنجليزية إلى جوار عنوانه بالعربية (1)، لكن هذا النص نفسه، كان قد ظهر فى كتاب سابق لقطب وهو «العدالة الاجتماعية فى الإسلام»، وقد أشار فى الهامش إلى المصدر، ونكتشف أنه لم يعد إلى الكتاب ذاته، لكن هذا النص، استشهد به مولاى أمير على فى كتابه «الإسلام والنظام العالمى الجديد»، وقد ترجم الكتاب إلى العربية، بجهد أحمد جودة السحار، وما زالت هذه الترجمة تطبع إلى اليوم، لدى مكتبة مصر، وكان المترجم أحد ملاكها. هو اكتفى بتلك الإشارة؟ لكن هل يمكن، علميا، الاعتماد على نص ليس من مصدره الأساسى، بل نقلا عن مرجع آخر، أى منزل المصدر الأول، ونذهب إلى مصدر ثانوى، خصوصا إذا كان النص المتقطع يؤدى إلى نتائج قد تتصادم مع توجه ومقصد المصدر الأول، كما فى حالة برتراند راسل من قبل؟! لا يتوقف الأمر عند فقرة أو نص فى كتاب، لكن هناك حالات أخرى، حين يقف سيد قطب أمام كتاب مترجم بأكمله، كما هو الحال مع كتاب «الإنسان ذلك المجهول»، الذى وضعه إلكسيس كاريل، وترجمه إلى العربية شفيق أسعد فريد، حيث ينقل منه صفحات متتالية لا فقرات فقط. فى كتابه «الإسلام ومشكلات الحضارة»، جعل الفصل الأول من كتابه بنفس عنوان ذلك الكتاب «الإنسان ذلك المجهول»، ويشير إلى أنه اقتبس العنوان من ذلك الكتاب ومؤلفه، ويبدأ النقل حرفيا من الكتاب فى استشهاد أول يمتد من صفحة 9 وحتى صفحة 12 بشكل متصل، ثم يقدم تعليقا سريعا على ما نقله، ويعاود النقل ثانية، ومن نفس الكتاب عبر الصفحات من 13 وحتى 18 بشكل متصل، ثم يتوقف ليعلق، على ما قام بنقله تعليقات لا تقدم ولا تحمل إضافة ولا إيضاحا ولا انتقادا للنص، بل تكرار له بأسلوبه هو، ويتواصل النقل من صفحة 19 وحتى صفحة 24، ويمتد الفصل بعد ذلك، حيث يبدأ النقل من آيات القرآن الكريم، وفى العادة يتم الاستشهاد بآية قصيرة أو جزء من آية، لكنه ينقل من سورة البقرة الآيات من 29 إلى 34 ثم سورة النمل الآيات من 5 إلى 16 وبعدها سورة طه من 115 وحتى 127 والنساء من 60 إلى 65 والمائدة من 44 إلى 50 وهكذا، ينتهى الفصل الأول من كتابه (1) لنجد أن الفصل بأكمله منقول، وليس له فضل سوى الربط بين الفقرات، أما فكرة الكتاب نفسه فهى عن كتاب كاريل، هنا نتساءل: ما دور سيد قطب ككاتب فى هذه الحالة؟ يظهر كتاب كاريل مرة ثانية فى كتاب سيد قطب «المستقبل لهذا الدين»، ففى فصل بعنوان «صيحات الخطر» نجده ينقل ما يملأ تسع صفحات بأكملها فى كتابه عن كاريل، فقرات متتالية وصفحات بأكملها، ويتدخل بين حين وآخر بين بعض الفقرات للربط بينها، راجع مثلا من صفحة 76 وحتى صفحة 85، ثم يتوقف ليعلق، وبعدها يواصل النقل، وليس عن كتاب كاريل، بل عن كتاب جون فوستر دالاس «حرب أم سلام»، من صفحة 88 وحتى صفحة 96 من كتابه، كان كتاب دالاس قد ظهرت ترجمته العربية سنة 1950، وكان دالاس يبشر فى هذا الكتاب بأن أفضل وسيلة لمواجهة الماركسية هى الاتحاد على الكنيسة لتنمية الجانب الروحى فى الإنسان، ثم وسع دالاس من نظريته لتمتد إلى المسجد فى البلدان الإسلامية، للتصدى للمد الشيوعى ونفوذ الاتحاد السوفييتى.