السبب المباشر لهذه المقالة هو أنني أقرأ هذه الأيام كتابا حديثا عن حياة الاقتصادي الانجليزي جون ماينور كينز, وكانت قد صدرت السيرة الرسمية لحياة كينز منذ نحو أربعين سنة بمعرفة الاقتصادي المشهور روي هارود. ثم عاد الاقتصادي البريطاني سكيدلسكي إلي إصدار ثلاثة أجزاء عن حياة كينز خلال السنوات العشر الأخيرة, جمعها في مجلد واحد, وفي أثناء قراءتي لسيرة كينز مع مؤلفها الجديد, استوقفتني العبارة المشهورة لبرتراند راسل, والتي يقول فيها أن قدرات كينز العقلية هي الاكثر حدة ووضوحا مما رأيته مع أي شخص آخر, وإنني حين أتناقش معه كنت أضع حياتي بين يدي, وندر أن خرجت من المناقشة معه دون أن أشعر بالحماقة, وكثيرا ما كنت أعتقد بأن مثل هذه المهارة الكبيرة لابد وأن تتنافي مع العمق, ولكن مع كينز يصعب القول بذلك. وقد دعاني ذلك إلي العودة إلي قراءة مذكرات برتراند راسل, ومضيت في قراءة السيرتين بالتوازي في الوقت نفسه, مما أوحي لي بالكتابة عن الرجلين, فهما من جيل واحد راسل أكبر من كينز بتسع سنوات وهما من وسط اجتماعي متشابه, وقد عاصرا معا مجد الامبراطورية البريطانية, وكانا علي يقين بأنها إلي أفول لمصلحة الامبراطورية الأمريكية البازغة, وربما الفارق الوحيد بين الرجلين هو أن برتراند راسل استمر متعلقا ببعض تقاليد العصر الفيكتوري مع غير قليل من التمرد, في حين أن كينز كان قد تقمص التحرر الإدواردي نسبة إلي الملك إدوارد السابع في الخروج علي المظاهر الفيكتورية الصارمة. ولد الرجلان في عائلات ارستقراطية, وإن كانت عائلة راسل تنحدر من سلاسة من النبلاء, فأبوه لورد وكذا أخوه قبل أن يصبح هو الآخر لوردا بعد وفاة أخيه, أما عائلة كينز, فإنها وإن لم تحمل ألقاب النبلاء, فإنها لم تكن بعيدة عنهم, ويعتقد كينز أن أجداده كانوا من معاوني وليام الفاتح, ولكن الانتماء إلي الطبقة الارستقراطية لا يعني دائما الثراء, فراسل عاش أغلب حياته, بلا موارد مالية خاصة, باستثناء عائد كتبه أو محاضراته, كذلك فإن عائلة كينز كانت تتمتع بموارد محدودة, وإن كانت كافية. وقد حقق كينز لنفسه ثروة محترمة من المضاربات في البورصة بعد أن تعرض لخسائر كبيرة سابقة ولكن الأكثر أهمية من الوسط الاجتماعي الذي نشأ فيه كل من راسل وكينز, كان مستوي التعليم والثقافة الذي حصل عليه الاثنان, فأما راسل فإنه لم يذهب إلي المدرسة في السنوات الأولي, وإنما تلقي تعليمه في المنزل علي يد مدرسين خصوصيين حتي وصل إلي الجامعة, في حين أن كينز قبل في مدرسة إيتون أشهر المدارس الإنجليزية الخاصة بنجاحه في مسابقة الدخول, وبالتالي التحق بها بلا مصاريف, حيث حصل خلال سنوات الدراسة علي معظم الجوائز التعليمية في مختلف المواد الدراسية, وقد التحق الاثنان راسل وكينز بجامعة كمبردج, الأول بكلية ترينتي بكلية كينجز ودرس الاثنان الرياضيات اثناء الدراسة الجامعية, وحصلا باستمرار علي المرتبة الأولي, وعينا زميلين بالجامعة بعد تخرجهما, فالأساس العلمي لكل منهما كان في الرياضيات ثم أضاف إليها كينز الاقتصاد, ولكن بعد تخرجه من الجامعة, في حين درس راسل الفلسفة في آخر سنة دراسية له, واختير الاثنان أثناء سنوات الجامعة ضمن جماعة طلابية شبه سرية تضم الطلبة الاكثر نبوغا وتميزا, وكانت تعرف باسم الجمعية في وقت راسل, وباسم الرسل في وقت كينز, وقد لعبت جمعية الرسل دورا حاسما في حياة كينز الشخصية, ومنها تكونت مجموعة أخري من المثقفين في لندن اسمها بلومز بري وكان من أشهر أعضائها استراشي من جمعية الرسل أيضا وفرجينيا وولف الكاتبة الانجليزية وقد ارتبط الرجلان بصلات وثيقة مع معظم رجالات السياسة والاداب والعلوم والفلسفة والفنون في انجلترا وخارجها, وكان الاثنان راسل وكينز بالغا الاعتزاز بالنفس وبالطبقة التي ينتميان إليها ويذكر كينز في إحدي رسائله أنه بعد أن حصل أخوه الأصغر علي المركز الأول في الدراسات العلمية في كمبردج أيضا وأخته علي المركز الثاني أو الثالث في كليتها بأنه إذا استمرت عائلة آل كينز علي هذا المنوال في الانجاز العلمي لجيلين أو ثلاثة, فمن الممكن أن نصبح نحن آل كينز العائلة المالكة لانجلترا. وعندما حقق المركز الثاني في مسابقة الالتحاق بوزارة الخزانة البريطانية, ولم يكن قد درس الاقتصاد مسبقا, باستثناء الاستماع إلي مارشال أستاذ الاقتصاد في كمبردج لعدة ساعات, فإن كينز أرجع عدم حصوله علي المركز الأول, ليس لقلة خبرته وتدريبه في علم الاقتصاد, وإنما لجهل الاستاذ الممتحن. منتهي الغرور! كذلك فإن راسل ورغم دعواته للحرية والمساواة للإنسانية جمعاء فقد كان قليل الثقة في الجماهير. وعرف عن براتراند راسل مواقفه في الكفاح من أجل السلام ونبذ الحرب ورفض الانصياع لحكومته خلال الحرب. لعالمية الأولي للالتزام باحتياجات التعبئة العسكرية, بل ودخل السجن بسبب مناهضته للحرب, ومع ذلك اختلف موقفه بالتدريج إزاء الحرب العالمية الثانية حتي كاد يصبح من أكثر من المتشددين للوطنية الإنجليزية ضد الأمان في السنوات الأخيرة للحرب, بل أنه لم يستبعد تهديد الاتحاد السوفيتي بالقنابل الذرية بعد انتهاء هذه الحرب, وعلي عكس زوجته الثانية, عند زيارتهما للاتحاد السوفيتي في بداية الثلاثينيات من القرن الماضي, فإنه شعر بالكراهبة الشديدة للنظام الشيوعي في حين أحبت زوجته التاريخ الروسي, ورغم ضعف الاتحاب السوفيتي الاقتصادي والعسكري حينذاك في بداية الثلاثينيات فإنه تنبأ بأن العالم سوف يخضع في المستقبل لسيادة وهيمنة أمريكا أو روسيا, وهي نفس النبوءة التي قال بها الفرنسي دي توكفيل قبل ذلك بمائة عام, وقد تحققت هذه النبوءة إلي حد بعيد بعد الحرب العالمية الثانية, ولكن راسل, وعلي عكس رأيه السلبي عن الاتحاد السوفيتي, فقد أعجب بحضارة الصين عند زيارته لها, وكان يعتقد أن أكثر الأفراد تحضرا في العالم, هو الصيني المتحضر وربما أهم كتابين له هما كتابه عن المنطق الرياضي في مباديء الرياضيات ثم كتابه عن تاريخ الفلسفة الغربية وقد حصل علي جائزة نوبل, ولكن في الأدب! أما كينز فقد أخذ بتوزيع عملي بين المثالية والواقعية, فهو يعمل في الصباح في إطار من الواقعية في وزارة الخزانة لدعم جهود الحكومة في حماية الجنيه الاسترليني, وفي المساء يطلق كل نزعات التحرر إن لم يكن الفحش فضلا عن المناقشات الفلسفية والأدبية والفنية الجريئة في مجموعة البلومزبري مع أصدقائه من الفنانين والأدباء, وعندما قامت الحرب العالمية الأولي, انقسم أصدقاء كينز بين أولئك الذين استمروا علي التمسك بمباديء الدعوة للسلام ونبذ كل مظاهر الحرب, وبين من استيقظت لديه فجأة روح الوطنية والتطوع للحرب, أما كينز وكان يعمل في وزارة الخزانة البريطانية فقد استمر في القيام بواجبه بإخلاص شديد لحماية مصلحة الإمبراطورية, لكي يجتمع بعد ذلك مع أصدقائه في المساء أما في الصباح, وقبل ذهابه إلي مكتبه في وزارة الخزانة, فقد كان يجري بعض الاتصالات مع السماسرة لاستثمار مدخراته الصغيرة, والتي نمت بشكل كبير نتيجة لمضارباته الناجحة رغم بعض الخسائر المؤقتة, وكان حضور مؤتمر فرساي بعد نهاية الحرب العالمية الأولي, ضمن الوفد البريطاني للمفاوضات برئاسة لويد جورج أحد أهم محطات كينز الفكرية, وقد أدرك كينز أن دول الحلفاء خاصة في ظل الضغط الفرنسي يتجهون لفرض عقوبات مالية شديدة علي ألمانيا يصعب أن يتحملها الاقتصاد الألماني, مما قد يزرع البذرة لحرب جديدة مقبلة. فانسحب من وفد المفاوضات, واستقال من وزارة الخزانة وهو في حالة من( البؤس والغضب), وانكب علي تأليف كتاب مهم عن النتائج الاقتصادية للسلام. وكانت آراء كينز في رجال السياسة المشاركين في مفاوضات السلام بالغة القسوة. وبعد ذلك عاد كينز إلي حظيرة التقاليد المستقرة وتزوج راقصة الباليه الروسية ليديا لوبوكوفا, ثم انصرف إلي اهتماماته الأكاديمية والتدريس في جامعة كمبردج, حيث أصدر كتابه عن النظرية العامة للتشغيل والنقود وأسعار الفائدة والذي أحدث ثورة في الفكر الاقتصادي, باسترجاع دور الدولة في النشاط الاقتصادي حين أكد أن السوق لاتستطيع أن تحقق وحدها التوازن المطلوب. وقبل نهاية الحرب اشترك كينز مع الأمريكي وايت في وضع أسس النظام النقدي الدولي المقترح بإنشاء صندوق النقد والبنك الدوليين. وقد أعادت الأزمة المالية الأخيرة الحيوية من جديد لأفكار كينز الاقتصادية. جاءت الحرب العالمية الثانية وتراجعت الإمبراطورية, واختفت تماما وخاصة بعد حرب السويس1956, فالإمبراطورية البريطانية وصلت إلي حدودها القصوي مع الحرب العالمية الأولي, لتتفكك بعد الحرب العالمية الثانية. وجاءت حياة كل من راسل وكينز لتلقي ضوءا علي حياة الطبقة المتميزة في الإمبراطورية البريطانية وهي في قمة مجدها وإن كانت عناصر التحلل قد بدأت تنخر في ذلك الجسد. وهكذا تظهر أهمية مذكرات هذا الجيل من أمثال راسل وكينز, وكذلك تشرشل كأنشودة البجعة الأخيرة, أحلاها صوتا وإن كانت نذيرا بالنهاية القريبة. والله أعلم المزيد من مقالات د.حازم الببلاوي