«أفكار الاقتصاديين وفلاسفة السياسة، سواء كانت صحيحة أو خاطئة، أكثر قوة مما نعتقد فى العادة، والرجال العمليون، الذين يعتقدون أنهم لا يخضعون على الإطلاق لأية تأثيرات فكرية، غالبا ما يكونون عبيدًا لاقتصادى بائد أو آخر». الاقتصادى الإنجليزى جون مينارد كينز (1883 1946) كل الناس تقريبا يريدون من حكومات العالم بذل المزيد من أجل إنعاش الاقتصاديات العليلة. فلا أحد يود رؤية ركود «مضاعف». والغرض من قمة مجموعة العشرين فى تورنتو هو تفادى ركود كهذا. وفى البلدان المتقدمة الرئيسية البلدان الأعضاء الواحد والثلاثون فى منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية تشمل البطالة الآن 46 مليونا، بزيادة نحو 50% منذ 2007. ولا يقتصر الأمر على حرمان الناس من فرص العمل. فالبطالة طويلة الأمد يترتب عليها تدهور المهارات، وتؤدى إلى تراجع الحراك أو تأبيد البطالة. لكن ما الذى يمكن أن تفعله الحكومات أكثر مما فعلت؟ هذه مسألة غير واضحة. ربما نكون قد بلغنا أقصى حدود علم الاقتصاد. وكما لاحظ كينز، فإن الزعماء السياسيين يقعون أسرى أفكار الاقتصاديين الأحياء منهم والأموات والاقتصاديون تتزايد بينهم الخلافات بشأن ما ينبغى عمله. ومن الواجب أن نعترف بأن الاستجابة الأولية للأزمة (الخفض الحاد لأسعار الفائدة، وعمليات إنقاذ البنوك، وحفز الإنفاق) جنبتنا على الأرجح كسادا اقتصاديا. لكن الأزمة أطاحت أيضا بمنطق كل النظريات الاقتصادية الأساسية: الكينزية، والنقدية، و«التوقعات المنطقية». وتوفر الفوضى الفكرية المترتبة على ذلك سياقا للصراعات السياسية اليوم فى الداخل والخارج. ولنأخذ مسألة الميزانيات. هل العجز الأكبر يحفز الاقتصاد ويوفر فرص العمل، كما ترى الكينزية الأصيلة؟ أم أن انفجار الديون الحكومية يمكن أن يؤدى إلى أزمة مالية أخرى؟ يبدو منطق الكينزية محكما. فإذا كان الإنفاق الاستهلاكى والاستثمارى ضعيفا، تزيد الحكومة الطلب عبر تخفيض الضرائب أو زيادة الإنفاق. إلا أنه عند التطبيق، يفرض الدين الحكومى المرتفع قيودا مالية ونفسية. ونسبة الدين الحكومى إلى الاقتصاد (إجمالى الناتج المحلى) فى فرنسا 29%، وفى ألمانيا 82%، وفى بريطانيا 83%، كما يفيد تقرير بنك التسويات الدولية فى سويسرا. يعنى هذا إمكانية ضياع فوائد العجز الأكبر بأكثر من طريقة: من خلال أسعار الفائدة الأعلى إذا تسبب الدين الأكبر فى إخافة المستثمرين، وعبر تراجع الإنفاق الخاص إذا فقد المستهلكون والمستثمرون الثقة فى قدرة الحكومات على ضبط ميزانياتها، وعبر أزمة مصرفية فى حال انخفاض قيمة رأس مال البنك الذى يتألف فى جانب كبير منه من سندات حكومية. وهناك نوع من شد الحبل بين حافز المزيد من العجز والمخاوف الناجمة عن عمل كهذا. واعتمادا على الفرضيات المؤيدة، تقول إدارة أوباما إن برنامج «الحوافز» الذى بلغت قيمته 787 مليار دولار أسهم فى خلق 2.8 مليون فرصة عمل. وهذا جائز. ولم يفقد المقرضون بعد ثقتهم فى سندات الخزانة الأمريكية. ولا يزيد سعر فائدة سندات الخزانة لأجل 10 سنوات على 3%. لكن القيود المالية فى أوروبا تحللت. وقد ترتب على ديون اليونان الضخمة (نسبة الدين إلى إجمالى الناتج المحلى: 123%) زيادة كبيرة فى أسعار الفائدة. ويدور النقاش فى ألمانيا وبريطانيا للتوصل إلى خطط لتقليل العجز حتى لا تلقيا مصير اليونان. هذا ضرب من الجنون، كما كتب مارتن وولف، كبير المعلقين الاقتصاديين فى الفاينانشال تايمز. وهو ما يتطابق مع ما يقوله بول كروجمان، الاقتصادى الحاصل على جائزة نوبل والكاتب بفى نيويورك تايمز، الذى يرى أن الاقتصاد الأمريكى بحاجة إلى المزيد من الحوافز وقدر أكبر من العجز. وقد كتب يقول إن «التقتير فى وقت كهذا يهدد مستقبل الأمة». ويختلف معه الاقتصادى من هارفارد كِن روجوف. ولربما «ساعدت» حزمة الحوافز التى قدمها الرئيس أوباما فى «تهدئة الذعر» فى 2009، لكن زيادة الإنفاق الآن فى ظل عجز فيدرالى يتجاوز تريليون دولار قد «ينذر بأزمة ديون فى وقت قريب». إذ ينبغى تقليص العجز بالتدريج، على حد قوله.وهناك من الاقتصاديين من يعتقد أن التخفيضات يمكن أن تحفز النمو الاقتصادى فى ظروف معينة. وتوصلت دراسة أجراها الاقتصاديان ألبرتو ألسينا وسيلفيا أردجانا إلى أن خفض الميزانيات فى البلاد الغنية تفاقم تأثيره عندما انصب الاهتمام على تقليل الإنفاق وليس زيادة الضرائب. ومن المفترض أن تؤثر خطط الموازنة تأثيرا مواتيا على أسعار الفائدة والثقة دون إضعاف أثر الحوافز على العمل والاستثمار. وكشأن الكينزية بشكلها الأصلى، فقد عانت «المدرسة النقدية» كذلك فى قدرتها التفسيرية. وترى هذه النظرية أن ضخ بنك الاحتياط الفيدرالى كميات كبيرة من المال (الاحتياطيات) فى النظام المصرفى لابد أن يؤدى إلى زيادة الإقراض والإنفاق، بل والتضخم إذا ما كانت كمية الأموال كبيرة بما يكفى. ومنذ صيف 2008، قدم الاحتياطى الفيدرالى للبنوك نحو تريليون دولار من الاحتياطيات، ولم يحدث أى من الأشياء التى ذكرناها. فالتضخم لا يزال تحت السيطرة، وانخفضت قروض البنوك المعلقة بما يزيد على 200 مليار دولار خلال العام الماضى. ولدى البنوك مبالغ كبيرة من الاحتياطيات الزائدة. هناك الكثير مما لا يفهمه الاقتصاديون. وليس مستغربا أن أنصار «التوقعات المنطقية» وهى النظرية القائلة إن الناس يحددون أفضل الطرق للرد على الأحداث الاقتصادية لم يتوقعوا الذعر المالى والانهيار الاقتصادى. وينذر الانفصال بين النظرية والتطبيق بالسوء. فقد كان رد الفعل تجاه الأزمة الأولى هو ضخ الأموال لخفض أسعار الفائدة وزيادة عجز الموازنة. لكن فى ظل انخفاض معدلات الفائدة الآن وارتفاع العجز، ما الذى يمكن أن يحدث إذا ما حلت أزمة أخرى؟