استفاد الإسلامجيون من كون الخلفية الثقافية «النظرية» للشعب المصرى تشبه ما يدعون إليه. ليس فيها شىء صادم. «الغَيرة» والصدق، واجتناب الكذب، وهكذا. الآن توشك السياسة أن تجعل الإسلامجيين يدينون أنفسهم بألسنتهم، ويخربون بيوتهم بأيديهم، ويفرطون فى بضاعتهم الرائجة. فالإسلامجى خالد عبد الله يعلق على انتقاد البرادعى الاعتداء على حرمة جسد فتاة «قصر العينى» بقوله مستنكرا ومستخفا: «إيه التقوى دى ياد؟» ونادر بكار المتحدث باسم حزب النور يضحك له مشجعا، والإخوان المسلمون يصمتون صمت الإبل على مستوى القادة، ويستنذلون نذالة الضبع على مستوى القاعدة. كل هذا يضع الإسلامجية -أُمّات دقون- فى مصف واحد مع عضو مجلس الشعب عن الحزب الوطنى السابق، بطل المكالمة التليفونية الشهيرة، أحمد شوبير. هذا الأخير يتساءل: لماذا كانت الفتاة ترتدى ملابسها «على اللحم»؟ فكان كرجل النكتة. قال له أحدهم رأيت زوجتك مع رجل غريب فى الغابة القريبة. فانطلق غاضبا ثم عاد باسما وقال للواشى: «ملعون أبو الناس يا شيخ! كلهم شجرتين ويقولوا غابة؟!». لم يستطع كل هؤلاء الشنبات والذقون المذكورين أعلاه أن يفهموا «مربط الفرس» فى الموضوع. الذى لا علاقة له بالشكليات، إنما بإنسانية المعتدَى عليها. كل هؤلاء الشنبات والذقون يندرجون فى خانة واحدة، جمعتها النساء المتظاهرات فى قلب القاهرة فى مقطع من هتافهن: «البسوا إسود ع الرجالة». والرجال ليسوا بالضرورة ذوى نخوة، مثلهم مثل النساء، بعضهم ذو نخوة وبعضهم يقطر نذالة. لكن، على كل الأحوال، المجتمع الحالى ربط الرجولة بصفات مثل النخوة والشهامة والغيرة. حين تهدأ المشاعر بخصوص ما حصل فى التحرير ستبقى صورة نخوة الشاب الذى دافع عن فتاة «قصر العينى» وتحمّل ضربا أرقده فى المستشفى، وهو بالصدفة مسيحى، فى مقابل نذالة الإسلامجيين الذين نسوا «الغيرة لله»، والدفاع عن الحرمات، ووا معتصماه. ستبقى تلك نادرة شعبية تحكى عنهم. وما أسوأ الأقوال التى تكذبها الأفعال. لا سيما حين يتعلق الأمر بجماعات بَنَت قوتها السياسية على أكتاف خطابها الاجتماعى. ستبقى نذالة الإسلامجيين كلمة جامعة، لا تلتفت إلى حقيقة أن بعضا قليلا منهم اتخذ مواقف مشرفة. سيبقى هتاف «البسوا إسود ع الرجالة» يختصر الموضوع. لقد كنت عضوا فى جماعة إسلامية لمدة ست سنوات. كنت أرى نفسى تقيا ورعا، يراعى الله ما استطاع، يتصدق من أمواله ومن وقته، وإضافة إلى ذلك عكفت على القرآن فحفظته كله فى الإجازات الصيفية لأربع سنوات متعاقبة، بدأتها وأنا مراهق فى السادسة عشرة من عمرى. أنظر من حولى فأجدنى أفعل ذلك بينما أقرانى مشغولون بأمور «تافهة». خلال تلك السنوات أدركت أيضا مجموعًا أهّلنى لدخول كلية الطب. يعنى، باختصار، كنت أظن فى نفسى خيرا، دينا ودنيا. لكن عند نقطة معينة التحقت بكلية الطب جامعة القاهرة، ووجدت نفسى محاطا بشباب «عاديين». الدين شىء يشبه الهواء. ماذا تقول فى شخص كلما وقف معك قال: أنا الآن أشهق، الهواء يتحرك من تجويف الأنف إلى القصبة الهوائية إلى الرئتين، الحجاب الحاجز نزل إلى أسفل وخلق منطقة ضغط منخفض، الآن الحجاب الحاجز يعلو، الهواء يخرج من رئتى إلى قصبتى الهوائية... إلخ. هذا يشبه بعض ما تفعله الجماعات الدينية بنا، وما فعلته بى. الإسلامجى يصير عاجزا عن التفكير فى الأخلاق خارج نطاق التبرير الدينى المعلن، خارج معادلة الحلال والحرام، خارج معادلة إضافة الحسنات وطرح السيئات، خارج نطاق الفتوى المنوط بها إلزام ملايين الناس باتخاذ موقف موحد، دون أن يكون لهم يد فى اختيار هذا الموقف. كانت تلك إحدى صدماتى الأولى. اكتشفت أن هذا الإنسان التقى الورع الذى كنتُه ليس إنسانا سمحا بما فيه الكفاية، ولا سخيا بما فيه الكفاية، فى ما لا أستطيع ترجمته إلى حسنات. حتى أدركت أن علىّ أن آخذ الموضوع بيسر، وأن أنسى أننى أحفظ من القرآن أكثر مما يحفظ أقرانى أو من الأحاديث مئات أضعاف ما يحفظ أقرانى، أن أتواضع، لا تفضلا، وإنما إدراكا لحقيقتى الإنسانية. أدركت أنى إنسان عادى، وملىء بالعيوب، كما له حظه من الميزات. بمنتهى الصراحة، ليس بحفظ النصوص الدينية يرتقى الإنسان، إنما بالفهم. وليس بالشعارات يرتقى الإنسان، إنما بالفعل الذى يراه الإنسان خيرا. وهاكم دليل آخر ولن يكون أخيرا، لخصه هتاف نساء مصريات: «قالوا حرية وقالوا عدالة... البسوا إسود ع الرجالة».