لعلها تكون المرة الأولى التى أقرأ فيها كتابًا يتحدث فيه اثنان من المثقفين المصريين بمثل هذه الدرجة المذهلة من الصدق والصراحة، تعودنا دومًا على تلك الأقنعة التى أصبحت من لزوميات أى مثقف، يقول كلامًا وراء الأبواب المغلقة، ويقول كلامًا آخر على الورق وأمام الكاميرات، ليس بالضرورة أن يقول العكس، ولكنه يتجمل أو يخفف اللهجة أو يمسك العصا من المنتصف. ولكن د.أمل الجمل فى كتاب «نوال السعداوى وشريف حتاتة.. تجربة حياة»، نجحت بأسئلتها وبدراستها الجيدة لبطلى الكتاب ولأعمالهما فى أن تسجل آراءً غير مسبوقة لاثنين من الكُتاب لم يتعوَّدا إلا التعبير عما يعتقدانه، حوارات طويلة وجدل لا يتوقف بين نوال وشريف ينعش العقل، ويعيد قراءة الكثير من المسلَّمات، مع اعترافات ونقد للذات وللمجتمع وللآخر، فأصبحنا فى النهاية أمام وثيقة نادرة، وشهادة عميقة عن الحياة الثقافية والسياسية المصرية فى كتاب استثنائى من أهم وأفضل كتب عام 2014. تحدثت نوال وتكلم شريف عن كل شىء تقريبًا: حياتهما الخاصة والعامة، تجربتهما فى السجن، العلاقة بين الرجل والمرأة، الإبداع والفن والأدب، التربية والتدريس والجنس، السياسة والثقافة والمثقفين، أعمالهما الروائية، عقد الطفولة ولحظات النجاح والإحباط، علاقتهما بالشهرة وبالدين. نوال شخصية تصادمية لا تتردد فى أن تفقد أصدقاءها إذا تراجعوا أو تهاونوا، وشريف هادئ متأمل، يقول كل ما يريد، ولكن بطريقة أخرى، فطنت د.أمل إلى هذا التباين، ففتحت المجال حرًّا طليقًا للجدل وللنقاش الذى يتداخل فيه رأى كل طرف فى الآخر بلا تحفظ، شريف ونوال طبيبان تعوَّدا على فحص الحالات، ومصارحة المرضى بالداء، بدون لف أو دوران، يكتبان ما يعتقدان أنه روشتة الدواء بعد التشخيص، وبالطبع لا يملكان أن يجبرا أى مريض على تعاطيه، يعنى أنت حر، بل لعل أحد أسباب تفرد الكتاب أنه بالأساس عن حرية أن تفكر وأن تناقش دون وصاية، بصرف النظر عما إذا كنت ستتفق أو ستختلف مع نوال وشريف. أهمية هذا الكتاب فى أنه لا يضع أى نقاط فى نهاية السطور، مجرد مرآة تنعكس عليها آراء وأفكار شخصيتين لا يفهمان الثقافة باعتبارها كتبًا ودراسات، ولكن يعتبرانها عملية تحول للذات وللمجتمع. المعرفة عندهما لا قيمة لها ما لم تجعلك تصبح أفضل وأكثر إبداعًا، والأفكار يجب أن تصل إلى الناس، لا أن تبقى سجينة أصحابها، كلاهما متحمس لرأيه ولاختياراته، وكلاهما تمرد على الوظيفة ودفع الثمن، ولكن سعادتهما فى هذا الاتساق بين أفكارهما وحياتهما، فى قدرتهما على الاختيار وممارسته وتحمل نتائجه، وهو أمر نادر للغاية، تخيل مثلًا أن تذهب نوال السعداوى للتدريس فى الخارج، فتكون أولى كلماتها فى أى محاضرة أنها تكره التدريس، وأن مهمتها أن تجعل طلابها ينسون ما درسوه، وأن يفكروا ويكتبوا بحرية، تصور مثلًا أن تسجن نوال فى سبتمبر 1981 فتكتب مذكراتها بدأب شديد لمدة ثلاثة أشهر على ورق التواليت وبقلم الحواجب لإحدى السجينات. تمرّد شريف حتاتة أيضًا على حياته المرفهة: والده من أسرة أرستقراطية غنية، وأمه إنجليزية، ولكن اختار أن يكون شيوعيًّا، حكم عليه بالسجن، فهرب إلى فرنسا، عاد فاعتقل، عمل فى وزارة الصحة، لم يتحمل الروتين فسافر للعمل فى الخارج، بدأ كتابة الرواية بعد سن الأربعين، ظل شريف ونوال على هامش السلطة والمجتمع والمعارضة معًا، وهو وضع غير مسبوق، ومع ذلك لم يتوقفا، تشعر أحيانا فى حديثهما بالمرارة لاغترابهما داخل الوطن، ولكنهما تعوَّدا أيضًا على المعارك ومواجهتها، كلٌّ بطريقته. أعجبنى فى الكتاب أنه حركة فكرية لا تهدأ، وأعجبتنى مقدمة د.أمل التى لا تقل صدقًا وحميمية عن حوارات بطليها، تحدثت عن حياتها وطفولتها فى قرية صغيرة بمحافظة دمياط، معرفتها باسم د.نوال السعداوى لأول مرة، كتاب «المرأة والجنس» الذى تسبب فى مشكلة لطلبة وطالبات المدرسة، حياة أسرة المؤلفة البسيطة، تجربة الختان المرعبة لطفلة مصرية، كان واضحًا تأثرها الشديد بهذه التجربة الإنسانية المزدوجة بين شريف ونوال، درست أعمالهما فجاء الحوار عميقًا ودسمًا وعاصفًا فى بعض الأحيان. الكاتبان المتمردان لم يسكتا عن رأى أو موقف أو وجهة نظر، ولم يرفضا الرد على أى سؤال. يجمع بين نوال وشريف تلك القوة الداخلية الهائلة التى تترجم إلى موقف جرىء، تعبير نوال عنها حاد وصارخ: «أنا لا أفصل بين المعارك الصغيرة والكبيرة، وده كان سبب اختلافى مع لطيفة الزيات فى السجن، يعنى قضية امرأة لا تعرف القراءة والكتابة، وضربوها فى زنزانة التعذيب أعمل عليها ضجة مثل أى حاجة تانية.. أنا مخى متركب بشكل فنى، واحد إصبعه جُرح مثل واحد رقبته قُطعت، الاتنان فيهما جرحْ والدم سال».. «رفضت نوال الجلوس فى الصف الأخير فى اجتماع مبارك مع المفكرين، جلست مكان فاروق حسنى وزير الثقافة فى الصف الأول، فلما قال لها لطفى الخولى: (دى حاجات شكلية يا نوال)، قالت له: (حضرتك ليه قاعد فى الصف الأول ما دام دى حاجات شكلية؟ ما تقوم تقعد إنت ورا)، فصمت ولم ينطق». شريف حتاتة أمضى 15 عامًا فى السجن دون أى ندم، اختار أن يكتب الرواية وأدب الرحلات، لم يتخل عن الحلم بعالم أكثر عدالة وحُبًّا، ولم يتردد فى تحليل أفكاره وانتقادها، أصبح مفهوم الأدب الملتزم بالنسبة إليه أن تدافع عن الإنسان وحريته وحقه فى الاختيار، فضفضة شريف ونوال على الورق، أو حوارتهما الطويلة فى الكتاب ليست إلا تعبيرًا صادقًا، وتحريضًا رائعًا بأن لا تركن إلى العادى والمألوف، فالحياة مغامرة عظيمة، اختر ما تريد بشرط أن تؤمن به وتدافع عنه، كن صادقًا ومتسقًا مع نفسك، ثم قل كلمتك وامش. هنا معنى الكتاب، وهنا معنى أن تعيش حقًّا.. لا أن تحيا والسلام.