(1) سامح الله النخوة التى تدفع زهرة شبابنا وبناتنا لسكنى باطن الأرض وهم أحلى ما فوقها، سامح الله النخوة عندما تسكن العيون فلا تقدر أن تغمض عن القتل والسحل وتعرية البنات، وتشعل القلوب الفتية فترفض أن تكذب نفسها أو تتغاضى عن السفاحين أو تساوم على حقوق الشهداء ومعاناة الجرحى، سامح الله النخوة التى تفتدى الوطن بثروته الحقيقية من شباب الأطباء والمهندسين والكتاب والحرفيين والعمال، فيرفضون العودة للبيت أو المشى بجوار الحيط، ويرفضون أن تضيع منهم الحرية التى قاتلوا لأجلها، والكرامة التى ضحوا فى سبيلها، يرفضون إلا أن يقولوا الحقيقة: الملك عار فلماذا تريدون أن نمدح ثيابه؟ فتسيل دماؤهم على الأسفلت فى ماسبيرو ومحمد محمود وقصر العينى، لا نفرق بين أحد منهم، وقبل أربعين عاما صرخ نجيب سرور «اللى قتل شهدى، جلادك يا سيد قطب»، وكان شهدى عطية الشافعى شيوعيا وسيد قطب إسلاميا، وقتل العسكر كليهما بالتعذيب وبالإعدام، تماما كما قتلوا اليوم مينا دانيال وعماد عفت، بينما يرقص الآخرون فوق الدم رقصة العسكر والحرامية. ومن كان ليلوم الشباب لو قالوا لأنفسهم: ما لنا وهذا؟ فالشعب سعيد فوق الكنبة، والعسكر سعيد فى السلطة، والإسلامى سعيد فى الانتخابات، و«ربنا يهنّى سعيد بسعيدة»، فلماذا ننزل إلى شوارع القتل والسحل ورمى الجثث فى القمامة، لماذا ننزل فيشتمنا الشعب ويكفرنا الإسلاميون ويسحلنا العسكر ويقتلنا البلطجية، لماذا؟ لا أجد سببا سوى الخوف من أن يتساءل الأحفاد بعد خمسين عاما: لماذا تخليتم عن المستقبل؟ (2) إلى من تصدمه تعليقات حزب الكنبة وتصرفات «المواطنين الشرفاء»، أهدى إليه هذا المقطع من «شرق النخيل»، رائعة العم بهاء طاهر.. قالت سوزى: «نعم وأولاد الحلال يضيعون أنفسهم من أجل أولاد الحرام (..) كنت آتية من شبرا فى الترام (..) ورأيت عند سور الأنتكخانة كثيرا من العساكر بملابسهم السوداء وعلى رؤوسهم برانيط الحديد وبأيديهم الشوم، سألنا فقالوا لنا إن مظاهرة الطلبة فى ميدان التحرير وجاء السائق فجلس معنا فى ديوان الأولى وهو يقول ربنا يستر. نزل كثير من الركاب وبقى معى فى الديوان رجل عجوز ومعه ابنه الشاب وكان يصرخ فيه ووجهه محمر والولد، يا عينى، لا يفتح فمه بكلمة، كان يقول: ماذا يريدون؟ يريدون أن يخربوا البلد؟ يريدون أن نحارب ونحن لم نستعد؟ عندما كنا شبابا كنا نعمل مظاهرات ضد الإنجليز (..) وأخيرا خرس واصفرّ وجهه عندما رأينا العساكر الواقفين عند الأنتكخانة يجرون ناحية الميدان وهم يرفعون عصيهم..(..) وجرى واحد من الطلبة وقفز إلى ترام واقف ووثب من شباكه إلى الناحية الأخرى خلف صف العربات الواقفة ولكن كان هناك عساكر أيضا عند أول شارع شامبليون، فاستدار وقفز من شباك الترام الذى نركبه وزحف على يديه ورجليه حتى اختبأ فى الديوان عند أقدامنا، كان مجروحا فى رأسه والدم ينزف من جبينه على أرضية الترام فأعطيته منديلى لكنه كان صغيرا ورحت أفتش فى شنطتى عن شىء أكبر، وكانت امرأة عجوز تجلس على أرض الترام قرب ديوان الدرجة الأولى وهى تستند على قفة فأخرجت منها خرقة كبيرة وأعطتها له وهى تقول كبدى يا بنى. وفى هذه اللحظة صعد إلى الترام عسكرى وهو يلهث وزملاؤه يقولون له هنا هنا.. فتش الترام، وبدون أن تنظر المرأة العجوز أزاحت قفتها قليلا لتخفى الطالب المقرفص على الأرض ولكن العسكرى رآه وهمّ نحو الديوان فقالت العجوز بصوت خافت ربنا يسترك يا بنى. لو عندك ابن أو أخ صغير ربنا يبارك لك. مجروح يا كبدى. ومدت يدها على قفتها وكأنها ستسد باب الديوان. وتطلّع العسكرى إلى وجوهنا ثم إلى الطالب على أرضية الترام ووقف قليلا ثم استدار لينزل، ولكن كان زميل له يحاول أن يصعد تسبقه عصاه فقال له: لا أحد هنا أنا فتشت الترام، ولكن زميله دفعه فى صدره وهو يقول بل هنا. وفى هذه اللحظة وقف الأفندى ابن الحرام صاحب المظاهرات ضد الإنجليز وقال مناديا العسكرى هو يشير بيده إلى الأرض: هنا يا عسكرى، تعال هنا. دفع العسكرى الواقف على السلم زميله حتى كاد يقع وداس على المرأة العجوز وهجم على الطالب ورفعه من رقبته وحاول الطالب أن يقف وهو يقول بلادى بلادى ولكن العسكرى أخذ يجره على ركبته ويقول له اخرس. وعندما دحرجه خارج الترام وتلقفه العساكر الآخرون بالشوم كفت المرأة العجوز التى هرسها العسكرى عن التأوه وتطلعت إلينا كأنها تستفهم منّا، ثم نظرت إلى الأفندى الذى كان لا يزال واقفا وبصقت على أرض الترام دون صوت. وفجأة قام ابنه الذى كان يضع يده على وجهه ثم اندفع يجرى خارج الترام وهو يبكى ويصيح بلادى بلادى، فتلقفه العسكر».