المجتمعات السليمة اعترفت بوجود مشكلة التفاوت فى الأرزاق، وعملت على حلها، ليس بإفقار الأغنياء وإنما باتباع نظرية الأوانى المستطرقة، التى تؤدى إلى نقل المعرفة والسلوكيات المتحضرة والحياة الكريمة إلى أدنى طبقات الشعب. لكن عندنا حدث شىء أغرب من الخيال، وهو عدم الاعتراف أصلا بتفاوت الأرزاق. وشاعت بين الناس، الفقراء منهم والأغنياء، أسطورة «تساوى الناس فى الأرزاق»، التى تلبس - للأسف - ثوبا دينيا. حيث يزعمون أن الناس جميعا يحصلون على (أربعة وعشرين قيراطاً)، متفاوتين فى طريقة توزيعها، فهذا يأخذ خمسة فى المال وثلاثة فى الصحة، واثنين فى راحة البال، وذلك واحد فى المال وخمسة فى الصحة وأربعة فى راحة البال، إلى آخر هذا الكلام العجيب الذى لا يخضع لأى تدقيق دينى أو عقلى، ولكن اخترعه الأغنياء (ليخدروا) ضميرهم صوب مسؤوليتهم عن شقاء الفقراء. أما الفقراء فمُولعون بترديده لكى يستطيعوا أن يبتلعوا مرارة عيشهم ولا (يولعوا) فى أنفسهم ب(جاز)! ولمن يشك فى صواب رأيى أدعوه إلى زيارة أى عنبر فى أى مستشفى مجانى ليرى بعينيه أكذوبة هذه النظرية، حيث يجتمع ثلاثى الفقر والمرض والهم. أما من الناحية الدينية فقد كانت النصوص واضحة فى تفاوت أرزاق الناس فى الدنيا «وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِى الرِّزْقِ»، لكن فى المقابل يوجد ما لا يمكن إحصاؤه من الآيات التى تدعو للبر والصدقة والرحمة بالفقير. كان القرآن واضحا أن الدنيا دار ابتلاء، والعدل الكامل لن يتحقق إلا يوم القيامة. والقرآن اعتبر أن كل إنسان مُبتلى بحاله من الغنى أو الفقر، أو الصحة أو المرض، أو الخوف أو الطمأنينة، فلا إقبال الدنيا دليل على رضا الله ولا إدبارها دليل على سخطه، وإنما هو امتحانك الخاص، حيث أقامك الله فيه. .............. وأسطورة «تساوى الأرزاق» تُعطّل أى إصلاح اجتماعى حقيقى، لأننا إذا لم نعترف أصلا بوجود المشكلة فكيف نعالجها؟! ولأن فطرة الإنسان تهفو بطبيعتها إلى الحق والعدل والجمال. وحينما يواجه مشاهد الشقاء الشنيعة، خصوصا حينما يكون المتسبب فيه، فإنه يحتاج إلى (غطاء أخلاقى) لحفظ توازنه النفسى. والمسؤول الفاسد لا يعترف لنفسه بأنه المتسبب فى شقاء الناس، وبأنه يحيا فى القصور فيما تسكن رعيّته فى القبور. وإنما يقول لنفسه كلما شاهد مشاهد البؤس الشنيعة وبدأ ضميره ينغص عليه: «إنت زعلان ليه؟! إنت فاكرهم زينا؟! أبدا، دول متعودين على الشقا.. دول لو قعدتهم فى بيت حلو وشوارع واسعة مش حينبسطوا، والأربعة وعشرين قيراط بتوعى زى الأربعة وعشرين قيراط بتوعهم بس توزيعهم مختلف». إلى آخر هذه العبارات المخادعة التى تُخدر الضمير. لا يا سيدى إحنا مش متعودين على الشقا ولا حاجة، ولعلمك بقى الأربعة وعشرين قيراط بتوعك أحلى من بتوعنا، ولو مش مصدقنا تعال نبادل! المصرى اليوم