مرت مؤسسة الأزهر في مصر بمراحل عديدة متباينة، شارك الأزهر فيها في الحركة الوطنية المصرية فأثراها وأغناها، فضلا عن الدور الواسع في المحيطين العربي والإسلامي، وحظي الأزهر بسبب ذلك بسمعة كبيرة وثقة عظيمة بين المسلمين وغيرهم، بل وأكسب مصر مكانة دينية عريضة. لم أذهب إلي مكان في العالم مع كثرة أسفاري ومشاركاتي في المؤتمرات والندوات الإسلامية والعامة إلا رأيت خريجا أزهريا يحمل حبا كبيرا للأزهر ولمصر، بسبب دراسته في الأزهر رغم المعاناة التي قد يكون تعرض لها أثناء فترة دراسته في القاهرة. إن ملف الأزهر ملئ بالتاريخ العظيم وبالمواقف المجيدة وبالعلماء الكبار والخريجين المنتشرين من جنوب أفريقيا جنوبا إلي كندا وأمريكا الشمالية شمالا، ومن اليابان وجزر المحيط شرقا إلي مختلف دول أمريكا الجنوبية غربا وجنوبا، مرورا بأستراليا وجزر المحيط الهندي. هناك في بلاد المسلمين من المدارس الدينية من اهتم بتدريس مذهب معين، فصاحب ذلك تحزب وتعصب ديني للمذهب دون بقية المذاهب، فاقتصر الدين عند أصحاب هذه المدرسة علي مفهوم واحد أو اتجاه واحد أو رأي واحد أو آراء المذهب المحدد الفقهية وحدها، بل وقد ينتقص بعضهم من آراء المذاهب الأخري وهي كلها آراء للرجال وليست الدين نفسه، ولا يمكن بحال أن تكون هي التفسير الصحيح الوحيد للدين، وبعض هذه الآراء سيظل مطروحا للنقاش ومفتوحا أمام الاجتهادات والصح والخطأ أو مقفولا عند بعضهم علي رأي واحد إلي يوم القيامة حتي يحكم الله تعالي بين الناس فيما اختلفوا فيه ويتضح الحق من الباطل، رغم أنف من يزعم أنه وحده يملك الحق وما عداه باطل، دون إدراك بأن الإجماع علي أمر فرعي متعذر وأن الاختلاف ضرورة. وللأسف الشديد ينتج عن مدارس المذهب الواحد أو حركات الاختيار الفقهي الواحد غلو وتشدد وتطرف، بل وتوقف وتبين وتكفير أدي إلي تشويه صورة الإسلام ذاته، وساعد المستشرقون وبعض الحاقدين علي الإسلام خصوصا في الغرب علي الطعن في الدين واتهامه بالتخلف، استشهادا بأقوال وأفعال بعض أصحاب مدرسة المذهب الواحد أو الرأي الواحد التي لا يقبلها عقل فضلا عن الشرع؛ والتي استخدمت الدبابة في قتل الذبابة، فأهدرت الطاقات والقدرات وصرفت الأنظار عن وسطية الإسلام وسماحته حتي أفتي بعضهم من العاصمة البريطانية لندن بضرورة قتل الأطفال في الفتنة الجزائرية أوائل التسعينات بعد الانتخابات التشريعية حتي لا يلدوا فاجرا كفارا، ومنهم من أفتي عندما سئل عن الحضارة الغربية بأن الغرب بالنسبة للمسلم مثل (المبولة ) أو التواليت، يقضي الانسان فيه حاجته ثم يذهب. يقول هذا المدعي قوله هذا وهو يقيم في الغرب، ويستفيد من نظام المساعدات الاجتماعية في مأكله ومشربه ومسكنه وعلاجه، ويري آلاف المسلمين يذهبون للغرب للتعليم والعلاج والعمل في ظروف أفضل والعيش بحرية. يقول هذا وهو يري بعض الدول الإسلامية تستنجد بالغرب في صراعها مع أخواتها في الدين وتزعم أن ذلك هو شرع الله!!. يقول ذلك ولا يسعي للعمل بينما يردد كل يوم في صلاته قول الله تعالي : «وقل اعملوا». من هنا تأتي أهمية الأزهر الشريف في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ الأمة والعالم وبعد فترات من الظلم الذي تعرض له الأزهر مثل بقية المؤسسات بل الشعب كله، فانفصل كليا أو جزئيا عن الحركة الوطنية، وضعف دوره علي الساحة الإقليمية والعالمية، وصدرت عن بعض مؤسساته المتخصصة ورجاله فتاوي من نوع فتاوي المذهب الواحد المرتبط بالحاكم الظالم والتي لم تهتم بالواقع القائم عند إصدار تلك الفتاوي الشاذة. أما وقد حدثت ثورة 25 يناير العظيمة في مصر، فقد قلبت الأوضاع الشاذة وحررت البلاد والعباد من القيادة الظالمة الفاسدة وكسرت الحواجز المصطنعة، حدث هذا وعلي رأس الأزهر فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، وهو عالم جليل كريم المنبت، عاني مثل بقية الشعب من الظلم والإجبار والإكراه، ورأي بأم عينه تدهور أوضاع الأزهر الشريف، فأصبح عليه وقف هذا التدهور وإنقاذ الأزهر وتطويره نظما ولوائح وأداء ليعود إلي سابق عهده ومكانته السامقة التي تليق به كمؤسسة مصرية إسلامية عالمية وأن يؤدي الدور المطلوب منه وخصوصا في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ مصر، وفي ضوء هذا التحول العظيم والدقيق الذي تشهده مصر اليوم. وأقترح علي فضيلة الإمام الأكبر وعلي مؤسسة الأزهر الشريف أن يشمل الدور المستقبلي الهام ما يلي من محاور، وكل منها بالطبع يحتاج إلي تأصيل وتفصيل : أولا : التفوق في التعليم الديني بين المدارس الدينية، وذلك عن طريق إعادة تأهيل وتدريب المعلمين والمدرسين، وتطوير المناهج والوسائل والأدوات، وتجهيز الدعاة تجهيزا كاملا وإشاعة احترامهم وتقديرهم في العالم كله. ثانيا : إنهاء فوضي الفتاوي؛ وذلك بتحديد مهام ومؤهلات ومواصفات من يجوز له إصدار الفتوي، وضرورة بيان الأوجه المتعددة للفتوي في الأمر الواحد، وخصوصا في الأمور السياسية والشئون المتغيرة والقضايا الفرعية، ومبررات تفضيل الأولي، أو تفضيل وجه علي الوجوه الأخري وخصوصا في الشأن المصري القائم؛ لإبطال السعي في إصدار الفتاوي الشاذة التي تفرق الأمة، وتشهر سلاح التكفير في وجوه المسلمين. ثالثا : السعي لتوحيد الأمة وفق ما يردده المسلمون يوميا من كتاب الله تعالي "إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون" وقوله تعالي "وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون". لايزال هناك العديد من المهام التي سنتعرض لها في مقالات قادمة بمشيئة الله تعالي. أسأل الله تعالي لمؤسسة الأزهر الشريف وإمامها الأكبر التوفيق والفلاح في إعادة الأزهر إلي دوره الريادي أو إعادة دوره إليه ليكون نموذجا ومبشرا بالوسطية والاعتدال في أركان العالم أجمع.