مصر قلب العالم العربي والشرق الأوسط، ومن لم يدرك هذه الحقيقة، فهو جاهل بالتاريخ والجغرافيا، ولأجل مصالح أمريكا العليا ولضمان أمن إسرائيل علينا قطع «نياط هذا القلب». هذه العبارة قالها «جون فوستر دالاس» وزير خارجية أمريكا في الخمسينيات لوضع استراتيجية تعامل أمريكا مع مصر. هذا إنما يوضح أهمية مصر بالنسبة للعالم العربي والشرق الأوسط وأفريقيا فمنذ بداية التاريخ مروراً بمراحله المختلفة، أثبتت الأحداث بوقائعها أن ما يقع في مصر من أحداث سواء سلبية أم ايجابية يمتد أثرها في العالم أجمع، ونلحظ هذا في العصور القديمة مروراً بالعصر الحديث. حتي الماضي القريب، وما أحدثته ثورة 52 من تأثير مباشر علي العالم العربي، وأفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا. إذا كانت هذه أهمية مصر بالنسبة للعالم، فمن الطبيعي أن تزداد أهميتها وتأثيرها في محيطها الإقليمي، وبدافع أواصر الدم واللغة والجوار، يأتي تأثيرها مضاعفاً بالعالم العربي، فهي بمثابة الرأس للجسد، فلو ضعف هذا الرأس وابتعد لارتجف الجسد. فهو عضو مهم من كيان عربي موجود قائم، يتأثر كل عضو منه بالآخر. العالم كله يتوحد، يتجه نحو التكتلات والمصالح المشتركة، ونحن العرب نسعي نحو الانشقاقات، فربما أبناء مصر لا يدركون قيمة هذا البلد وتاريخه الحضاري، ولا العرب يعرفون هذا. رسخت مصر بعد ثورة 52 فكرة القومية العربية بعدما كانت نظرية، بأن جعلت منها منهجاً عملياً، أرست قواعده، فقامت بإرسال المدرسين والخبراء والمقرئين، وصدرت أنواعاً من الفنون شكلت الوجدان العربي، وساعدت علي نشر ثقافتها عن طريق كتابها وأزهرها، فكان دورها تعليمياً وفكرياً توصلاً مع ما سبق قبل الثورة. وبعد حرب أكتوبر 73، دفعت مصر الكثير من دماء شهدائها، هذه الحرب كانت سبباً رئيسياً في ارتفاع أسعار النفط آنذاك، فتراكمت الثروات النفطية حتي عادت بالرخاء علي الدول العربية، وبعد معاهدة «كامب ديفيد» تراجع دور مصر الثقافي والفكري والريادي وبشكل تآمري. كسب العرب الثروة وفقدوا الفكر، الذي تمثله مصر، وتحولوا إلي مجتمع استهلاكي، غيرت الثروة مظاهر حياتهم، بأن أخذت شكلاً مدنياً دون أدني تغيير حقيقي في صميم تركيبة الشخصية العربية أو تنميتها. ففقدوا دورهم التاريخي، ومساهماتهم في الحضارة الإنسانية والمجتمع الدولي وأصبحوا في نظر الغرب، ليسوا أكثر من أصحاب ثروات وحراس علي آبار النفط. تحجيم دور مصر الريادي، كان وراءه حكام منتفعون، ساعدهم في ذلك بعض حكام مصر الذين كانوا سبباً رئيسياً لأزماتها علي مدار تاريخها الطويل، هؤلاء الحكام الذين لا يدركون حقيقة هذا البلد وقيمته وعبقرية المكان، وفقدوا إيمانهم بقدرات شعبه بممارسة كل أنواع وأشكال الانحراف السياسي، من أجل مصالحهم، متناسين دور مصر الحضاري والتاريخي وما قدمته للعالم. وما لمصر من تأثيرات في محيطها العربي، ظهر هذا بعد ثورة التحرير، من خلال ردود الفعل التلقائية التي أظهرتها الشعوب العربية، من فرحة وابتهاج وسعادة حقيقية، بعودة مصر وشعبها إليهم. ونحن الآن في مرحلة التطهير والتحولات المحفوفة بالمخاطر، لا بديل من التخلص من الميراث السلبي، بإلغاء كل الأمراض المجتمعية بآفاتها التي حاصرتنا لسنوات لتخرج مصر من دائرة التابع والخادم والمتسول، التي كانت تظهر به بفعل حكامها والتي لا تتناسب مع مكانتها، فهي أعظم وأكبر من أن يتنازع شعبها الآن علي الفتات. فلو نظرنا إلي المستقبل القريب، سنجد أن مصر مازالت عامرة بموائدها، بغض النظر عما أهدر منها، فمازالت طبيعة أرضها وثرواتها وإمكانياتها، وعقول أبنائها وخبراتها، كما ظهرت علي مدار مراحل التاريخ المختلفة. والآن ونحن في هذه اللحظة الفارقة، التي ستشكل مستقبل العالم العربي الذي هو مرهون بمستقبل مصر، لابد من تفاهم يوضح الرؤي والمصالح العليا لشعوب المنطقة العربية، ولتكن النظرة أشمل، فمصالح الشعوب ليست مرتبطة بحكامها، فالحكام ذاهبون، فكما قدم العرب لمصر، ووقفوا بجانبها في بعض أزماتها، قدمت مصر ما هو أكبر وأثمن من قيمة الثروات النفطية، ليس مناً منهم أو منها فالنفط ليس هو الضمان الوحيد. والآن بعودة مصر للعرب، عودة الروح للجسد، يكتمل الشكل العربي والشخصية العربية. فكراً وثروة، كل منهما يكمل الآخر، فلابد من وقوف العرب بجانب مصر، ليس بالكلام فقط، ولكن بتقديم كل امكانياتها غير المشروطة في هذا التوقيت علي الأقل، لتجتاز مصر أزمتها هذه، وتكون العلاقة تكاملية وليست تفاضلية، فوقوف العرب مع مصر لاسترداد قوتها وريادتها، ليس لصالح مصر فقط، بل لصالح المحيط العربي بأكمله، وليس من مصلحة العرب اضعاف دور مصر، فقوة مصر قوة للعرب، وبضعف مصر يتهاوي العرب وإلا لما كان الغرب، ليصاب بالتوتر والقلق والذعر بعد الثورة خوفاً من التقارب والتلاحم الفكري، ما بين مصر وشقيقاتها من الدول العربية.