مرت علينا سيرة القرم في كتب التاريخ المدرسية .. ودوما كانت هذه البقعة نقطة اشتعال تتصارع عليها الدول القوية .. القرم بالتتري يعني «الحصن» و لها تاريخ حافل بالصراعات الدموية والإختلافات العرقية ، من شعب السكوثيون البدوي المتنقل في منطقة أسيا الوسطي وأوربا والمنحدر من أصول فارسية ، والذي نزح من سهول أوراسيا إلى جنوبروسيا في القرن الثامن قبل الميلاد ثم استقر عند البحر الأسود وكانت لهم صلة بالمستعمرات الإغريقية في شبه جزيرة القرم، مروراً بشعوب كثيرة أخرى منها البيزنطيون والغوطيون وحتى السوماريين وشعب الخزر التركي ، والمغول التتار إلى العثمانيين وأخيرا الروس. في القرن الثالث عشر الميلادي كانت شبه جزيرة القرم تحت سيطرة التتار .. وكان القوم تجار مهره . استطاعوا تحويل القرم إلى مركز تجاري مهم ، حيث كانت تنطلق سفنهم التجارية من ميناء القرم الكبير في العاصمة سيفاستوبول إلى الإسكندرية في مصر ثم إلى مواني البحر الأبيض المتوسط ، وكانوا ينافسون تجار جنوا والبندقية في إيطاليا في تجارة الرقيق الأبيض وتجارة التوابل والحبوب ومنتجات أخرى مختلفة . تنامت تجارة القرم بفضل أسطولها البحري وموقعها الجغرافي وصارت تلعب دورا أساسيا في التجارة الدولية . تزايد أهمية القرم التجارية جعلها مطمعاً لقوي دولية عديدة حتي أنتهي بها المطاف بيد الإمبراطورية العثمانية في القرن الخامس عشر الميلادي وصارت ولاية من ولايات الخلافة العثمانية . لكن الوضع لم يستقر طويلاً للعثمانيين ، فبعد الاضطرابات الداخلية التي وقعت بين التتار والقوزاق حدثت تحولات سياسية دفعت التتار إلى الإستقواء بالإمبراطورية الروسية وطلب الحماية منها ، ووصل الأمر إلي إعلان الولاء لها عبر معاهدة بيرياسلاف عام 1654 مما مهد لهيمنة روسيا القيصرية على التجارة بشبه جزيرة القرم . وفي القرن الثامن عشر توسعت روسيا عسكرياً باتجاه الجنوب وسيطرت على شبه جزيرة القرم مما وفر لها ممراً إلى البحر الأبيض المتوسط عن طريق البحر الأسود . وكان القيصر الروسي علي قناعة وبحق أنه لكي تصبح روسيا دولة عظمى لابد من ضمها للأراضي المتاخمة للبحر الأسود بما في ذلك القرم، لذا كان على استعداد لشن حروب طاحنة من أجل الاحتفاظ بالقرم ، في المقابل لم يعجب ذلك الأعداء اللدودين لروسيا مثل الإمبراطورية العثمانية والفرنسيين والبريطانيين، الذين كانوا على استعداد للدفع بمئات الآلاف من الجنود لاحتلال القرم بشكل خاص. وفي الحقيقة سعت الإمبراطورية الروسية دوماً للاحتفاظ بشكل دائم بالقرم رغم المعاهدات التي وقعت وتنص على أن تكون هذه المنطقة ذات إدارة ذاتية. ولم تكتف بذلك فاطماع روسيا كانت تتوق للاستيلاء على أراضي الإمبراطورية العثمانية لذا ظلت تتحين الفرص للانقضاء عليها، فهذا يوفر لها إمكانية كسب معابر للتوسع في الشرق الأوسط والوصول للثروات والمياه الدافئة . تحرك القيصر الروسي نيقولا الثاني بشكل صريح لتحقيق مطامع روسيا في أراضي ركيا ، زحف القيصر بجيوشه عام 1853 إلى مالديفيا ورومانيا، عندها اشتعلت نيران حرب القرم الرهيبة ما بين عامي 1853 و1856. اسرع السلطان العثماني عبد المجيد الأول يطل المدد والعون من فرنسا وبريطانيا . هبت الدولتان لإرسال قواتهما لضرب القوات الروسية في سيفاستوبول العاصمة الحالية للقرم. والحقيقة أن الدعم الفرنسي والبريطاني للعثمانيين لم يكن بدافع الصداقة ، أو فقط لدرء التمدد الروسي بل لوعود صريحة بالحصول على ميزات تجارية على البحر الأسود . كما توجه السلطان بطلب المساعدة إلى عباس باشا الأول والي مصر المحروسة . نهض خديوي مصر لتلبية طلب الخلافة العثمانية . أمر بتعبئة أسطول من 12 سفينة مزودة ب 642 مدفعا ونحو 7 آلاف جندي مصري بقيادة القائد البحري حسن باشا الإسكندراني. لم يكتفي حضرة خديوي بالمساندة البحرية بل قرر الباشا تعبئة قوات برية قوامها 20 ألف جندي مع عدد كبير من المدافع ، وجعل أمرتها للفريق سليم فتحي باشا، وكان يرسل لهذه القوات تعزيزات بين الحين والآخر من جنود وسفن. في نهاية مارس 1884 م نزلت قوات التحالف العثمانية المصرية الفرنسية البريطانية في مضيق الدردنيل في مواجهة الجيوش الروسية .. سرعان ما اصطكت الصفوف واشتعلت المعارك الطاحنة . وبعد شهور من المعارك الطاحنة بدأت قوات الحلفاء تحقق نتائج جيدة وتحرز انتصارات مؤثرة ، وحينها أسرعت ايطاليا للدخول بجانب الحلف الرباعي وأرسلت 14 ألف جندي لمحاربة الروس .. وفي الثامن من شهر سبتمبر 1885 استولت قوات الحلفاء على كامل جزيرة القرم . وفي 30 مارس عام 1856 وقعت كل من روسيا والإمبراطورية العثمانية وبريطانيا وفرنسا وحكومة سردينيا الإيطالية وبروسيا والنمسا ما سمي معاهد سلام باريس، ومن أهم بنودها حيادية البحر الأسود ونزع السلاح فيه وحرية الملاحة في نهر الدانوب. والمؤسف أن مصر لم تكن ضمن الدول الموقعة علي هذه الإتفاقية رغم مشاركتها بقوات كبيرة كانت لها ابلغ الأثر في تحقيق النصر وسقوط المئات من جنودها علي ارض القرم . وتم معاملتها كولاية تابعة للدولة العثمانية . وكانت للقوات المصرية معارك خالدة هناك ، علي راسها معركة الدفاع عن مدينة سيليستريا شمال شرقي بلغاريا الإستراتيجية . والتي نشبت عنما حاولت القوات الروسية اقتحامها وتصدت لها وحدات من القوات البرية المصرية بقيادة إسماعيل باشا حقي في شهر مايو 1854 م ولمدة شهرين ، حيث تمكنت من إيقاع آلاف القتلى والجرحى في صفوف الروس . ولقد وصفت المعارك التي دامت قرابة شهرين بالأشرس في حرب القرم وذهب ضحيتها نحو 400 جندي مصري شهيد. ويضاف إلى سجل المعارك المشرفة التي شاركت فيها القوات المصرية وبجانبها ثلاث فرق من الجنود الجزائريين كانوا ضمن القوات الفرنسية معركة «الما» ، كما كان للأسطول المصري مشاركة حقيقية في حرب القرم وتمكن من لعب دور مهم في إيقاع أكبر الخسائر البشرية في صفوف القوات الروسية. ويذكر التاريخ حادثاً مؤلماً لبارجتين مصريتين غرقتا أثناء العودة ففقدت البحرية المصرية نحو 1920 جنديا في البحر الأسود كانوا على متنها، ويقول خبراء عسكريون اليوم إن أسباب الغرق غير واضحة حتى اليوم لكن قد يعود السبب إلى الأحوال الجوية الصعبة ولقد نجا 130 بحارا. وتشير بيانات دولية إلى أن عدد القتلى من الجيش المصري خلال حرب القرم وصل إلى 2500 وعدد لا يحصى من الجرحى وتدمير الكثير من المعدات والسفن البحرية الحربية. ويبقي السؤال هل تكون شبه جزيرة القرم اليوم سبباً في اشتعال العالم المحتقن مرة ثانية ؟ هذا ما ستجيب عنه الأيام ..