* كانت جنازة وداعه هى الأكبر فى مطلق عصور التاريخ الإنسانى * مصر تريد برنامج عبد الناصر تريد مشروع عبدالناصر مطورا بمتغيرات الزمن من حولنا وفى عالمنا وتريد رجلا من سيرته لتعطيه صوتها واسم عبد الناصر ليس طرفا محايدا، إنه فى قلب الصراع الاجتماعى والسياسى الدائر، طوائف التخلف السياسى والنهب الاقتصادى تكرهه كراهة التحريم، والشعب المصرى بأوسع طبقاته وفئاته يحبه بشدة، ويرفع رأسه مع رفع صورة عبد الناصر، ليس حنينا إلى ماض ذهب، بل عن رغبة جياشة فى استرداد المستقبل، فاسم عبد الناصر تعبير عن الوجدان الجماعى فى لحظات المحن ولحظات الفوز، وحين تتحدث مصر عن نفسها، وتستعيد أسماءها الحسنى، فإنها تجد على سطح الذاكرة المختزنة عهودا وعذابات وملاحم، وأشواقا ورموزا، يبرز بينها اسم جمال عبد الناصر فى تفرد خاص لا يقبل التكرار، وربما كان ذلك هو ما جعل اسم عبد الناصر مختلفا مميزا فى ديباجة الدستور الجديد، فقد حجزوا له وحده صفة «القائد الخالد»، وبدا الرجل عنوانا على مصر المتجددة، تتعاقب العصور والعهود، وتتوالى الثورات والأزمات، ويبقى اسمه مع صورته تذكار وفاء من أجيال عاشت عصره، وتذكرة لأجيال جديدة طامحة، ربما لا تعرف شيئا عن سيرة عبد الناصر، وربما لم يذكر لها بخير أبدا، بل توالت عليه حملات الطعن والتشويه، ثم لا يبقى من الركام الهجائى لعبد الناصر شيئا، اللهم إلا أكوام من المهملات تسد طريق البلد إلى براح النور، وتبقى صورته كأنها قرص الشمس الدافئة الحانية الطالعة فى صباح جديد تنتظره مصر . نعم، صارت صورة عبد الناصر طقسا شعبيا احتفاليا، يزدهر فى كل عام بأكثر من أعوام سبقت، كان الحنين إليه قائما على الدوام، كانت جنازة وداعه هى الأكبر فى مطلق عصور التاريخ الإنسانى، ولم تحدث مثلها جنازة لزعيم رحل قبله أو من بعده، لاعندنا ولا عند غيرنا من أمم الدنيا، كانت مصر التى تقدس معنى الخلود، وتعرف معنى البقاء الأبدى، كانت مصر هى التى أقامت بتلقائية مدهشة وداعها الخاص جدا لعبد الناصر، وداع لعظمة من سيرة الأهرامات، وداع لرجل لم يطلب لنفسه شيئا من متاع الناس لم يملك فى حياته بيتا خاصا، لكنه ملك قلوب الفقراء والطامحين جميعا، فهو الرجل الذى عاش ومات بإخلاص لفكرتين، الأولى: انحياز لا نهائى للفقراء ولمعنى العدالة الاجتماعية، والثانية : انحياز لا نهائى للوطنية المصرية المنفتحة بالطبيعة على القومية العربية، كانت الفكرتان دليله الذى لا يخطئ، طرحهما على الواقع، وأعادهما إليه الواقع أكثر اكتمالا ونضجا، وفى صورة مشروع وطنى جامع، بدت عناصره السبعة ظاهرة فى تكريس الاستقلال الوطنى والديمقراطية الشاملة ومجتمع الكفاية والعدل وأولوية العلم والتكنولوجيا والتوحيد العربى والتجديد الحضارى والعولمة البديلة، وبدا التصور مرهقا وملهما، ومات عبد الناصر دونه، وهو فى سن الثانية والخمسين، ولم يتسع له وعاء الزمن الضرورى، والذى كان كفيلا بإنضاج التجربة لتكافئ التصور، والذى تدرك مصر الآن أنها فى حاجة لاستعادته، فى حاجة لاستعادة التصور والمشروع الذى ضاع منها، فى زحام كوارث دهمت وتلاحقت، وأخرجتها من سباق العصر الذى كانت فى طليعته زمن عبد الناصر اللاهث، وصحيح أن أخطاء شابت عصر عبد الناصر كأى تجربة بشرية كبرى، لكن الأخطاء وربما الخطايا كانت بنت زمانها وظروفها، ولا يصح لها أن تزيغ البصر عن الاتجاه العام لحوادث التاريخ، فقد كان حصاد تجربة عبد الناصر باهرا، وكانت مصر حتى حرب 1973 رأسا برأس مع كوريا الجنوبية فى معدلات التنمية والتصنيع والاختراق التكنولوجى، وقد بدأ الانقلاب على اختيارات عبد الناصر بعد الحرب، وكانت النتيجة على ما نعلم بعد أربعين سنة، فقد نزلت مصر من الحالق إلى الفالق، وخرجت من سباق العصر بالجملة، «وقعت من قعر القفة» كما نقول بالعامية المصرية، وبدلا من منافستها لكوريا الجنوبية فى مضمار التقدم والرقى، صارت رأسا برأس مع «بوركينا فاسو» على مؤشر الفساد الدولى، وهذه حقيقة الانحطاط التاريخى الذى انتهينا إليه، والذى جاءت ثورة 25 يناير 2011 وموجتها الأعظم فى 30 يونيو 2013 كتعبير عن الرغبة فى عبور الهوة، والحلم باسترداد المستقبل، ووصل ما انقطع مع سيرة عبد الناصر وثورته، وبذخيرة خبرة إضافية أتاحت دواعى التأمل فيما جرى، وعلمتنا أن نهضة عبد الناصر كانت عظيمة، وكانت للناس، لكنها لم تكن بالناس، وهو ما سهل فرص الانقلاب عليها، وحطم الاستقلال الوطنى لمصر، وانتهى إلى تجريف طاقتها الانتاجية المبدعة، وكان الدرس: أن الديمقراطية هى الضامن لبقاء النهضات، وكان الدرس: أن الأولوية ينبغى أن تعطى لحركة الناس الأحرار قبل وبعد حركة الضباط الأحرار، ولم يكن الدرس غائبا عن عبد الناصر، وكانت لديه ملكة التصحيح الذاتى، ففى أوائل الستينيات من القرن العشرين، جرى حوار لساعات على الهواء، وجرى نقله فى بث مباشر على التليفزيون الذى كان أعجوبة زمانه وقتها، كان الذى بدأ الحوار هو المفكر الليبرالى وقتها خالد محمد خالد، والذى ابتدر جمال عبد الناصر بدعوته إلى إعادة الأحزاب، وأنه لا خوف على عبد الناصر وحكمه، فسوف يفوز الرجل وحزبه بأغلبية ساحقة فى أى انتخابات تجرى، هكذا قال خالد محمد خالد فى المؤتمر الوطنى للقوى الشعبية الذى عقد لإقرار ميثاق عبد الناصر، وكان رد عبد الناصر على خالد محمد خالد ضافيا وعاكسا لنقطة خلاف جوهرى، فقد رأى عبد الناصر أن الديمقراطية لها جناح اجتماعى لا يقوى الجناح السياسى على الطيران بدونه، وأن خطته أى خطة عبد الناصر هى اجراء تغييرات جوهرية اقتصادية واجتماعية تضع الثروة والسلطة فى أيدى مستحقيها المنتجين العارقين، وتخلق مجتمعا جديدا من قلب المجتمع القديم، وأن المجتمع الجديد قد يكون جاهزا وقتها لإطلاق حرية تعدد الأحزاب وتداول السلطة، جرى الحوار فى أوائل الستينيات، وفى أواخر الستينيات، كان عبد الناصر يفكر ويستعد بالفعل لتجاوز تجربة التنظيم الواحد، وتحدث فى محاضر اللجنة التنفيذية العليا عن التحول إلى نظام الحزبين، وإلى نظام تعدد الأحزاب، وربط التحول إلى التعددية بإتمام مهمة إزالة آثار العدوان وتحرير سيناء، والمعنى: أن صورة التقدم كانت متكاملة فى ذهن عبد الناصر، وإن لم يمهله الزمن لترجمتها إلى واقع، فقد رحل الرجل فجأة، وكانت مصر لاتزال على جبهة الحرب، وحين عبر جيش عبد الناصر، وحقق النصر، فقد كان عبد الناصر فى رحاب ربه قبلها بثلاث سنوات، كانت التجربة الثورية قد فقدت حارسها ومؤسسها، ولم تكن الأمة فى نوبة الحراسة، وجرى العصف بالحلم فى غيبة حزب ثورى ونظام ديمقراطى . ويبقى أن ارتباط المصريين باسم وصورة عبد الناصر له معان أعمق، الارتباط السياسى والتاريخى ظاهر، وخلاصته: وحدة ثورات مصر، ووصل ما انقطع بين ثورة 23 يوليو وثورة 25 يناير المتصلة فصولها ومعاركها، ومد رحلة الثورة بزاد ديمقراطى جديد، وتجديد المشروع الوطنى الذى كان عبد الناصر علما عليه، أضف إلى ذلك ما قد يمكن تأمله من ملامح التكوين المصرى، أو ما قد يمكن تسميته بطبع المصريين، وأولويات التفضيل عندهم، ففى تكوين المصريين على ما نذهب إليه ثلاث عقائد حاكمة، أولها: الدين الذى يعكس ميل مصر الغريزى إلى حضارة التوحيد، العقيدة الثانية فى كلمة هى العدل، فقد ارتبط تكوين الدولة المصرية بتنظيم مياه النيل وعدالة توزيع الموارد، والعقيدة الثالثة - فيما نظن - هى الجيش، فقد كان الجيش دائما هو النخاع العظمى للدولة المصرية، وارتبطت تطورات التاريخ الوطنى بدور جوهرى للجيش، وبدأت الدولة المصرية الحديثة زمن محمد على ببناء جيش الفلاحين المصريين الأول، ثم ارتبطت سيرة الجيش بسيرة البلد وانتفاضاته، ومن ثورة عرابى إلى ثورة جمال عبدالناصر، وقد كان عبد الناصر هو المهندس الأعظم لبناء جيش مصر الثانى عقب هزيمة 1967، وثلاثية «الدين - العدل - الجيش» بدت متوافرة فى شخص عبد الناصر بأكثر مما اجتمعت لغيره، وهو ما يفسر جاذبية عبد الناصر المتوائمة تماما مع مزاج وعقائد التكوين المصرى، والتى تجعل الرجل حاضرا بيننا وأمامنا برغم غيابه الطويل . وباختصار: مصر تريد برنامج عبد الناصر، تريد مشروع عبدالناصر مطورا بمتغيرات الزمن من حولنا وفى عالمنا، وتريد رجلا من سيرته لتعطيه صوتها.