· هيستريا الفراغ سيطرت علي المسئولين للدرجة التي منع فيها محافظ الإسماعيلية ندوة محمد صبحي لأن الرئيس مريض · غياب الرئيس كشف رخاوة الدولة وتعلق الجميع في رقبة الحاكم بدا الإعلام الرسمي منتفخا ومختالا في الساعات الأولي للإعلان عن إجراء الرئيس لعملية جراحية في ألمانيا..اعتبر أن الإفصاح عن تعرض الرئيس لوعكة صحية تستدعي الجراحة تطورا مشهودا لم يحلم به أبناء المحروسة.. باعتبار أن المرض في التراث السياسي المصري سر حربي ..الإفصاح عنه في عصور غابرة بمثابة اختراق لثوابت الدولة وتهديد لأمنها.. كاد مثلا كامل الشناوي أن يفقد حريته للأبد عندما مازح عبد الناصر وذكره بأنه زميله في مرض السكر.. تكهرب الجو وغفرت خطيئة الشناوي بطريقة أقرب للمعجزة.. في ألمانيا كان الزهو الرسمي بالشفافية..تحدث الأطباء الألمان برفقة حاتم الجبلي عن طبيعة الجراحة وأنها مجرد إزالة للمرارة، وفي القاهرة تواصلت حملة التباهي لساعات..إلي أن انقلبت الشفافية المزعومة إلي غموض وتضارب، مع تسريبات غريبة كان أولها ما قيل عن زائدة لحمية في الإثني عشر، تحولت في اليوم التالي إلي ورم حميد..كان قد سبق الوصف الأخير تقارير تؤكد أن الرئيس يتناول العسل والزبادي ويقرأ الصحف..بسرعة البرق تحولت مصر إلي ساحة للرعب من فراغ قادم منبعه تضارب الأنباء..أصبحت القاهرة حبلي بالشائعات، تأثرت البورصة.. تسربت تقارير إسرائيلية تصطاد في الماء العكر.. كان الحل هو الصورة.. رأي الناس رئيسهم يتكلم ويحادث أطباءه.. بدا شاحبا نسبيا .. وهو أمر طبيعي لشخص أجري جراحة قبل ساعات.. بقدر تهدئة الأمور ووأد الشائعات قبيل استفحالها، وهي نتائج إيجابية عززتها صور الرئيس القادمة من ألمانيا، بقدر ما أحالتنا إلي حقائق كشفتها الأزمة، وصفعتنا بها. فدولة المؤسسات التي يتشدق بها النظام منذ عقود بدت عاجزة عن إعلان حداد لشيخ الأزهر..مجرد إمضاء علي ورقة لا تشعل حربا ولا تفتح حدودا.. رجل من قلب النظام توفي خارج بلده ودفن في تراب غير ترابها .. له ثقل ديني في محيطه العربي والإسلامي.. ومكانة بروتوكولية تساوي رئيس الوزراء.. فقط نعته دولة أخري صارمة البنية محددة المعالم..دولة الكنيسة. أسبوع كشف "رخاوة" الدولة المعلقة في رقبة قائدها في أقسي صور السلطة الأبوية..صحيح أن الأجهزة الأمنية والسيادية كفلت الأمن وسيطرت علي الصغيرة والكبيرة.. لكن ذلك ليس من معالم قوة الدولة بقدر ما هو معلم لشراستها. لم يقتنع أحد أن رئيس الحكومة هو الحاكم البديل، وهو غير قادر علي تعيين وزير أو إخراج آخر.. مهمته المعلنة تلقي الضربات عن النظام ثم تحميله كل الخطايا وإلقائه علي قارعة الطريق عن الضرورة.. قضايا معلقة بلا حل ومبادرات مجمدة علي الأرفف.. ومعتصمون أمام مجلس الشعب، حتي المشاغبين ينتظرون الغائب كي ينقذهم من براثن نظامه، صرخ طلعت السادات طالبا حماية الرئيس مما أسماه تلفيق قضية رشوة له من قبل مسئولين، حتي حكام الأقاليم "غرقوا في شبر ميه" .. منع مثلا محافظ الإسماعيلية ندوة للفنان محمد صبحي بلا سبب معلن..سافر الرجل واستعد لندوته ..ثم فوجيء بقرار صادم للمحافظ.. الريس تعبان ومقدرش أعمل ندوة"..عاد الفنان الضحك متحسرا ومتجهما ..لا يتحمل أحد في تلك الظروف كلمة منفلتة..الجميع معلق برقبة الكبير، وحتي ما بدا أنه بديل جاهز من قلب النظام خارج من أمانة السياسات تعامل معه أتباعه والمستفيدون منه باعتباره دليلا علي إفراز المؤسسة الإيجابي.. لم يجده أتباعه .. تعلق هو الآخر برقبة الكبير.. وإن كان وجوده برفقة أبيه أمر طبيعي وإنساني. في "بروفة الفراغ" كانت بين الحين والآخر تظهر معالم سلطة.. تستدعي وزارة الخارجية مثلا القائم بالأعمال الإسرائيلي لتسأله عن طبيعة التجاوزات الإسرائيلية في القدس.. لكنها مساحة حرية علي الهامش، مهمتها امتصاص غضب شعبي محتمل من محاولات هدم الأقصي، محتمل أن يشتعل بموجبها الشارع.. والشارع في مواجهة الفراغ يعصف بالجميع. رعب من "بروفة" الفراغ لم تشهده دول أخري قريبة عانت من فراغ حقيقي..لم تجربه لبنان طوال أشهر من الفراغ الحقيقي عقب انتهاء مدة إميل لحود ، وقبيل التوافق علي اختيار ميشيل سليمان.. كان النظام اللبناني يعاني من فائض مؤسسات وزعامات متضاربة المصالح.. بينما يعاني نظيره المصري من ضمور قيادات وتطابق المصالح.. وكله معلق في رقبة رجل واحد. في مؤسسات المعارضة كان هناك فراغ آخر، أحزاب تتكتل لضرب الإصلاح، ولو فرضنا حسن نيتها وبأنها تذكرت فجأة ضرورة إستيقاظها.. وأن تنحو منحي الحركات الاحتجاجية.. كانت الإصلاحات مطالبات ونداءات عبر الفضائيات لم يتكتل خلفها بشر أو جمهرة.. كانت الفنادق تحتضن جدل العضو المعين بمجلس الشوري رفعت السعيد ومعه محمود أباظة بينما الناس علي المقاهي في واد آخر تسأل عن الأمن المتخفي في ملابس مدنية في الشوارع لضبط البلد في غيبة الرئيس.. طفت علي السطح هواجس الأمن عند كل كمين للشرطة..يتبادل الناس عبارة تناسب الحدث" البلد متستحملش غلطة".. لم ينتبه أحد لمطالب الأحزاب.. ولا جلساتهم في القاعات المكيفة. ومقابل إئتلاف الأحزاب كانت الحركات الاحتجاجية تبلور مطالبها وتخطط لطرح بدائل في الشارع، كانت تخطط لتغيير خطابها لجذب أكبر عدد ممكن من الأتباع، بينما ركز بعضها في ما سيقدمه من أفكار محرمة يحولها إلي معتادة.. ومنها فكرة الرئيس الموازي والانتخابات الموازية التي تكلم عنها عبدالحليم قنديل.. كانت الحركات تخطط وتفكر بينما بروفة الفراغ حدثت بالفعل.. والوقت لن يسعف أحدا لتنفيذ خططه. عادت البورصة إلي أوضاعها واطمأن أنصار الرئيس علي صحته، حتي معارضوه تمنوا عودته سالما.. بينما ظلت مرارة الفراغ في الحلق كما هي.