كانت لديه القدرة على الإبداع ورفض القديم من الفن بإبداع فن عصرى وليس بالأحاديث الصحفية.. امتلك بوصلة للاتجاه إلى الأصدق والأجمل والأكثر عصرية ونجومية بالثقافة والوعى. لا يعيش الفنان بمعزل عن الحياة ولا عن البشر فهو بقدر ما يأخذ منهم يمنحهم كما كان يقول أحمد شوقى إنه يمتص رحيق الزهور ليعطى عسلاً شهياً.. والزهور فى حياة الفنان هم الأصدقاء المقربون الذى يتحولون إلى أشرعة يطل من خلالها على الدنيا كان الشيخ الملحن «أبو العلا محمد» ثم الشاعر «أحمد رامى» هما شباك الثقافة الذى رأت منه أم كلثوم كل ثقافات الدنيا وكان أحمد شوقى هو دليل عبد الوهاب فى بداياته مع مطلع العشرينيات من القرن الماضى فى التذوق الفنى وفى تذوق الحياة ومن الواضح أن عبد الحليم حافظ قد استفاد من تجربتى أم كلثوم وعبد الوهاب ولهذا اتسعت دائرته فى الثقافة لتشمل العمالقة كامل الشناوى ومصطفى أمين وإحسان عبد القدوس ويوسف السباعى.. هذه الكوكبة من المفكرين لم يسع إليها عبد الحليم لأنه يريد أن يجمل صورته أمام المجتمع ولكن من خلالهم أدرك عبد الحليم أن عليه تذوق الكلمات والألحان وأيضاً الأقوال. هناك دائماً بين الفنان وجمهوره جسر وهو وسيلة الإعلام التى تقدم عنه صورة ذهنية حتى إن أغلب المطربين لكى يضمنوا تعاطف الجمهور كانوا يقدمون فى أفلامهم قصة كفاح لمطرب يبدأ من السفح حتى يصل للقمة ويضحى ولا يتنازل.. كل ذلك حتى يتم تثبيت هذه الصورة ليس فقط من خلال أحاديثهم ولكن عبر الأفلام من أجل أن يحدث توحد فى العادة بين الفنان ومع تلك الصورة التى قدمت فى العمل الفنى وإذا كان الزمن قد منح الجمهور قدرة على ألا يترك نفسه نهباً للصورة الدرامية التى تقدمها الأفلام فإنه على الجانب الآخر ترك المجال لكى نرصد الفنانين من خلال إبداعهم وأيضاً طريقة تسويقهم لهذا الإبداع والإعلان عنه والأسلوب والتوقيت بعد تعدد الفضائيات صار الناس يتعرفون على الفنان من خلال اللقاءات التليفزيونية وكثيراً ما يسىء مطربو هذا الجيل استخدام هذه المفردات!! من البديهى على سبيل المثال أن يأتى الفنان لكى يقدم رؤية مغايرة لما سبق ولا توجد قدسية لأى عمل فنى ولا لفنان هناك فقط حق احترام التجربة السابقة.. أنا لا أوافق على أن نظل فى حالة تقديس لكل ما هو ماض.. إنه ماض نحترمه نعم لكننا أبداً لا نقدسه.. الاحترام يتيح لنا إمكانية الاختلاف لكن القدسية لا تعرف إلا الخضوع والإذعان!! عبد الحليم حافظ لم يرفض فقط القديم لكنه سخر منه رفض عبدالحليم فى البداية أن يغنى أغنيات عبدالوهاب القديمة وأصر على أن يردد أغنياته هو مثل: «صافينى مرة» و «يا تبر سايل بين شطين يا حلو يا سمر» تلحين الموجى وتأليف سمير محبوب وعندما قدم فيلمه «أيام وليالي» غنى «يا سيدى أمرك أمرك يا سيدي» التى كتبها فتحى قورة ولحنها محمود الشريف، وهى أقرب إلى روح المونولوج تسخر من عدد كبير من الأغنيات والقصائد والأدوار القديمة لأم كلثوم والشيخ أبوالعلا محمد ومحمد عثمان وعبدالحامولى وسيد درويش وصالح عبدالحى!! لأنه فى البداية يقول «بحقك أنت المنى والطلب والله يجازى اللى كان السبب» وهى قصيدة شهيرة لأم كلثوم وتلحين أبو العلا محمد لا تزال الإذاعة المصرية تحتفظ بتسجيل لها تقدمه بين الحين والآخر. وموشح «بالذى أسكر من عرف اللمى» وبالمناسبة فإن «عرف اللمى» هو الريح الذى يأتى من شفة المرأة التى تميل للاحمرار، الموشح تلحين محمد عثمان وغناه الحامولى.. ويضيف فتحى قورة بأسلوب ساخر على نفس الوزن والقافية فى نفس الأغنية «كان فى حالة جاتله داهية من السما» ولهذا فإن عبد الحليم يقول «خايف أقول على قد الشوق لتطلع روحي» يقصد بالطبع أغنية «على قد الشوق» تلحين «كمال الطويل» وتأليف «محمد على أحمد» التى رددها عبد الحليم حافظ وكانت تمثل فى ذلك الحين نقلة موسيقية حققت لعبد الحليم شهرة عريضة واتهم بعدها أنه يقدم أغنية غربية.. لم يكتف «عبد الحليم» بأن يقول فى حديث صحفى إنه يرفض الإذعان المطلق للقديم ولكنه امتلك القدرة على أن يعلن ذلك فى أغنية شهيرة قدمها فى عام 1955. تقبل الناس هذه الأغنية لأن عبدالحليم استند موسيقياً على اتجاه مغاير فهو لم يقل مثل المطرب القديم «صالح عبدالحى»، «أنا قلبى عليك عليك قلبى» وهو ما يعرف بالهنك حيث يستمر المطرب والكورس فى تقديم تبادل تقديم نفس الجملة ولكنه اعتبر ذلك مادة ثرية للسخرية الغنائية لأن لديه مشروعاً فنياً مغايراً. كان عبد الحليم حافظ شديد الاعتناء بالكلمات واختيارها حتى لو اختلفنا مع عدد من أغنياته إلا أنه على سبيل المثال يقول بكلمات مرسى جميل عزيز فى أغنية «فى يوم فى شهر فى سنة» «وعمر جرحى أنا أطول من الأيام».. أو وهو يقدم تلك الصورة الشاعرية الرائعة لحسين السيد «كان فيه زمان قلبين الحب تالتهم».. أو مع مأمون الشناوى وهو يقول فى أغنية «فى يوم من الأيام» «أنا كل طريق لعيونى علمته بذكرى معاك»!! وأتذكر لمحمد حمزة فى أغنية «سواح» تعبير «الليل يقرب والنهار رواح» ومع الأبنودى فى «أحضان الحبايب» «رميت نفسك فى حضن سقاك الحضن حزن»!! الكلمة عند عبد الحليم كانت تشكل بالنسبة له رهاناً على الأجود والدليل أن الأغنيات الأولى لعبد الحليم كتبها سمير محبوب وبعد ذلك اكتشف أن لدى مأمون الشناوى ومرسى جميل عزيز وحسين السيد وصلاح جاهين شاعرية أكبر فاتجه إليهم.. ولهذا لم يكمل المشوار مع «سمير محبوب» الذى عاش بعد عبد الحليم حافظ خمسة عشر عاماً وهو يتساءل: لماذا لم يكمل مع عبد الحليم حافظ الرحلة التى بدأها فى أغنيات «صافينى مرة» و «تبر سايل» و«ظالم وكمان رايح تشتكى».. وبعدها أخذ «محبوب» يشكو لطوب الأرض من ظلم عبد الحليم وتنكره لرفيق المشوار ولكن عبد الحليم ضحى بالصداقة من أجل الإبداع الأصدق والأجمل والأكثر عصرية سواء أكانت كلمة أو لحناً، وكانت لدى عبد الحليم بوصلة قادرة على أن تلتقط الجديد ويجمل به حديقته الغنائية ولهذا بعد الموجى والطويل ومنير مراد ينضم إليهم بليغ حمدى ولو امتد العمر بعبد الحليم حافظ فلاشك أنه كان سوف يتعاون مع عمر خيرت وصلاح الشرنوبى والراحل رياض الهمشرى ومحمد ضياء الدين وصولاً إلى وليد سعد.. ومع الشعراء من أمثال بهاء الدين محمد وفاطمة جعفر وعماد حسن وبهاء جاهين وجمال بخيت وأحمد بخيت ونادر عبد الله وكوثر مصطفى والمبدع الذى رحل مبكراً عصام عبد الله وأيضاً أيمن بهجت قمر صاحب المفردات الشاعرية والعصرية المشاغبة!! كان عبد الحليم لديه قدرة على أن يشعر بالكلمة واللحن الأكثر عصرية وصدقاً. لكنى أرى الآن أن أغلب ما يغنى مرتبط بقاموس انتهت فترة صلاحيته ولم يستطع أن يتجاوز مفردات ليس فقط أغنيات عبد الحليم ولكن مفردات أغنيات صالح عبد الحى وبعض ما نستمع إليه يخاصم ليس فقط الإبداع والإحساس ولكن المنطق ويقدمون مجرد كلمات خالية من إحساس ومعانى الكلمات!! لم ينجح مشروع الرحبانية وفيروز فقط بالجملة الموسيقية ولكن بالكلمة التى تقتحم مجالات أخرى وسماوات لم يصل إليها من قبل من سبقهم من الشعراء مثل أغنية «أنا وشادى» أو «ضى القناديل» التى كتبها ووزعها الأخوان رحبانى لعبدالحليم ووضع اللحن محمد عبدالوهاب ورغم ذلك فإن ما قدمه عبدالحليم حتى على مستوى الكلمة لا ينبغى أن نعتبره فى كل أغانيه هو الأفضل دائماً.. أنا لا أتفق مع حلمى بكر على سبيل المثال الذى يرى أنه إذا انتقد أحد عبد الحليم فسوف ترتد إليه الانتقادات من عشاق عبد الحليم.. المشكلة ليست فى أن ننتقد عبد الحليم ولكن فى أن نعرف كيف ننتقده وتوقيت هذا الانتقاد، فأنا مثلاً لا أستحسن أغنية «قوللى حاجة أى حاجة» رغم أنها من كلمات شاعر كبير هو حسين السيد وتلحين الموسيقار أستاذ الأجيال محمد عبد الوهاب، إلا إننى أعلم أنها أغنية موقف فى فيلم «الخطايا» عندما حاول عبد الحليم أن يصالح نادية لطفى فقال لها «قوللى حاجة أى حاجة».. ولهذا لا أنتقد الأغنية بمعزل عن خطها الدرامى ولكنى فقط لا اعتبرها من أغنيات عبدالحليم المفضلة.. مثلما تغنى شادية أغنية تقول كلماتها «عجبانى وحاشته وحاشته عجبانى» الأغنية كتبها مصطفى عبدالرحمن ولحنها كمال الطويل، وكانت شادية تتغزل فى إسماعيل يس فى أحد الأفلام التى جمعتهما معاً.. فكان يجب أن تقول له «عجبانى وحاشته» وهى تتأمل ملامحه وشلاضيمه!! الفنان هو ابن شرعى لكل ما هو معاصر على مستوى الآلة وليس فقط المشاعر ولهذا يلتصق أكثر مطربى هذا الجيل بأغنيات الفيديو كليب، تشعر وكأنها تحولت إلى موضة صنعت من أجلهم، الفيديو كليب فى عمقه هو الإبهار الذى يعتمد على اللقطة السريعة والوهج الذى يبرق ثم ينطفئ لكنه لا يمكث طويلاً فى الوجدان، ولهذا لا يتوقف مصنع إنتاج الفيديو كليب ولا عيب فى تلك الوسيلة سريعة الانتشار ولكن الأهم هو كيف نوظفها لصالح العمل الفنى!! دائماً ما تخلق الآلة نجومها ولهذا فإنه لولا السينما ما كان من الممكن أن يصبح لدينا مطربة مثل ليلى مراد، ولولا الميكروفون الحساس ما كان من الممكن أن ينجح عبد الحليم ونجاة، ولولا الفيديو كليب ما أصبح لدينا عمرو دياب، عاصى الحلانى، راغب علامة، مصطفى قمر، هشام عباس، تامر حسنى، نانسى عجرم، اليسا، هيفاء لكن هانى شاكر وعلى الحجار أو الحلو و صابر الرباعى وكاظم الساهر وحتى ما جاء بعدهم مثل مدحت صالح وإيمان البحر درويش وخالد عجاج تواجدهم تجاوز الفيديو كليب، وبقاؤهم أبقى الكثير من تلك المعادلة التى فرضتها أغنيات الفيديو كليب ولكن يبقى شيء مهم خارج عن إرادة الجميع وهو النجومية التى تولد مع الفنان أو الكاتب وهى كاريزما خاصة لا تخضع لأى مقياس علمي.. النجومية تجدها فى كل المجالات وليس فقط الفن والأدب.. مثلاً الشيخ عبد الباسط عبد الصمد كان نجماً بين قراء القرآن بينما الشيخ محمود خليل الحصرى شيخ المقرئين فى العالم أجمع كان شيخاً كبيراً وجليلاً لكنه ليس نجماً!! رغم ذلك فإن النجومية يجب أن يحافظ عليها الفنان بالقراءة والاطلاع على الثقافة العامة وعلى الحياة.. ومن خلال متابعتى للأحاديث القليلة التى تحتفظ بها الإذاعة والتليفزيون لعبد الحليم وتبثها فى ذكراه أشعر أن عبد الحليم كان أكثر ثقافة ووعياً وإدراكاً حتى ولو كانت ثقافته مجرد ثقافة سمعية وهو ما يطلقون عليه حرامى ثقافة أى إنه لا يقرأ كثيراً لكنه يستطيع أن يجمع الكثير من خلال اقترابه من العمالقة كامل الشناوى ومصطفى أمين وإحسان عبد القدوس ولكن عبدالحليم كان يمتلك موهبة الكلام حتى ولو كان كما وصفه كامل الشناوى يصدق إذا غنى ويكذب إذا تكلم فهو قادر على الإقناع وعلى توجيه النقد بخفة ظل ودهاء.. مثلاً عندما عاتبه فريد الأطرش لأنه قال عنه إنه فى عمر أبيه قال له ضاحكاً «ما تزعلش انت زى جدى».. وعندما أراد أن يقول رأياً سلبياً فى هانى شاكر اكتفى بقوله «ليس لديه طموح». على الجانب الآخر عندما تقرأ أحاديث لعدد من مطربى هذا الجيل لا تتجاوز مفرداتهم كلمات «علىّ الحرام وعلىّ النعمة ورحمة أبويا وما تخليناش نقل أدبنا» هذه هى المفردات التى يستخدمونها فى أحاديثهم وذلك لأننا بصدد فنانين غالباً معزولين عن شبابيك الثقافة الحقيقية لا تجده فى دائرة كبار الكتاب والمفكرين ولا تشعر بأنه قرأ حتى ديوان شعر لنزار قبانى أو السياب وأدونيس وفاروق جويدة أو قرأ رواية لنجيب محفوظ أو يوسف إدريس أو حنا مينا!! كان عبد الحليم حافظ قادراً على تسويق فنه بينما لا يترك الآخرون فرصة إلا ويعملون على ذ ذ نشر بتاريخ 25/3/2013