لكاتب السطور علاقة طيبة مع قادة حماس فى الخارج والداخل الفلسطينى، ويقدر لحركة حماس دورها التاريخى فى حياة الشعب الفلسطينى، وعظمة تضحيات شهدائها ومؤسسيها الكبار، وصلابة وحيوية تنظيمها الداخلى. وقد التقيت السيد خالد مشعل زعيم حماس مرات فى القاهرةودمشق، وفى زمن حكم مبارك، وحيث كان ذلك من المحرمات والمحظورات، وتلقيت من مشعل اتصالا هاتفيا كريما يهنئ بنجاح الثورة المصرية فى خلع مبارك، وقبلها بسنوات، التقيت مشعل فى دمشق، وكان الرجل غاية فى المودة والحفاوة، وبادرنى مبتسما مهللا بقوله: «نحن الحركة الاستشهادية وأنت الكاتب الاستشهادى»، وكان مشعل يشير بعبارة «الكاتب الاستشهادى» إلى ما هو معروف من دورى فى قيادة الحملة الصحفية والسياسية لخلع نظام مبارك، وهى الحملة التى بدأتها مبكرا، ومع منتصف العام الأول من القرن الجارى، ولاقيت بسببها ما لاقيت، ومما احتسبه لوجه الله والحق والوطن والشعب. وقد لا يكون لهذا الكلام من محل إلا فيما سأقوله توا، فأنا أريد أن أحذر حركة حماس مما أتصوره أخطاء وخطايا، وبالذات فى علاقتها بالمخاض الجارى فى مصر الآن، وتزايد وتيرة الرفض لحكم جماعة الإخوان، وتبين فشله الذريع بسرعة خارقة، وهو ما يؤثر بشدة على شعبية حركة حماس فى مصر، ونزولها إلى أدنى درجاتها، واعتبارها مجرد فرع فلسطينى لجماعة الإخوان، يحق النفور منها كما النفور من حكم الإخوان، وينظر إليها كميليشيا قابلة للاستدعاء لنصرة الإخوان وقت الخطر، وكلها للأسف افتراضات تلقى قبولا واسعا من غالبية المصريين الآن، خاصة أن وسائل إعلام مصرية كثيرة تدأب على تغذية المخاوف، وباستخدام «وثائق مضروبة» قد يكون مصدرها فلسطينيا فى أغلب الأحوال. أصل الخلل فيما نتصوره قد يمكن شرحه على النحو التالى، فحركة حماس تاريخيا تؤمن بفكر الإخوان المسلمين، وليس واضحا بالضبط طبائع علاقتها التنظيمية بمكتب إرشاد الإخوان فى مصر، بعض قادة حماس قالوا إنه لا ارتباط تنظيمى بل فكرى مجرد، وحتى لو كان الارتباط تنظيميا، فليس من مصلحة لحركة حماس أن تبدو كفرع لجماعة الإخوان فى مصر بالذات، فالوطنيون المصريون لم يتعاملوا مع حماس أبدا بهذه الصفة، وتعاملوا معها كحركة تحرير وطنى فلسطينى، ولم يكن تأييدها محصورا فى أوساط الإسلاميين المصريين، بل كان يبلغ الذروة فى أوساط القوميين والناصريين المصريين، ولاعتبارات تعلقت بمجرى حوادث وتطورات القضية الفلسطينية ذاتها، فقد بدت حماس لوقت طويل كعنوان لمشروع المقاومة المسلحة، عارضت اتفاق أوسلو وتداعياته، وامتازت بعبقرية تكتيكاتها الاستشهادية، ولعبت دورا مرموقا فى الانتفاضة الفلسطينية الثانية، والتى تفجرت فى نهايات العام 2000، وعقب نجاح «حزب الله» فى إجلاء الاحتلال الإسرائيلى عن الجنوب اللبنانى، ودون قيد ولا شرط ولا سلام ولا كلام، وفى هذه الفترة، بلغ التأييد لحزب الله والحماس لحركة حماس ذروته، ولم يلتفت أحد وقتها إلى «شيعية» حزب الله أو «إخوانية» حركة حماس، بل بدا «حزب الله» عنوانا عربيا جامعا بامتياز، وبدت حركة «حماس» كأنها الحركة الوطنية الفلسطينية الأجدر بالتأييد والدعم، وبدا الشعور «الحماسى» جارفا إلى أواسط العقد الأول من القرن الجارى، ثم جرى ما جرى، ودخلت حماس الانتخابات الفلسطينية، وما أعقبها من تطورات الصدام فالاقتتال الدموى بين «فتح» و«حماس»، لكن حركة «حماس» ظلت تحظى بتفضيل ملموس فى أوساط الوطنيين المصريين المناهضين لحكم مبارك، خصوصا بعد أن آلت إليها مقاليد الأمور فى غزة اللصيقة بمصر، وعانت من أهوال الحصار الذى شارك فيه النظام المصرى وقتها، وتحولت قضية فتح معبر رفح وكسر الحصار إلى عنوان يومى فى السياسة الداخلية المصرية، وشهد الشارع المصرى مظاهرات ضخمة لدعم صمود حماس فى حرب أواخر 2008 أوائل 2009، ولقينا ما لقينا من صنوف العنت والمصادرة والتجويع والترويع فى مصر، ليس لأننا كنا ندعم حماس كتنظيم إخوانى، بل لأن «حماس» بدت وقتها كحركة مقاومة فلسطينية وعربية باسلة، تؤلف من حولها القلوب والضمائر. كان هذا ما كان، وهو ما اختلف بالطبع بعد نجاح الموجة الأولى للثورة المصرية، فقد تم فتح معبر رفح بصورة شبه دائمة، وجرى اختراق حصار غزة، وصار الذهاب لدعم غزة من السياحات المفضلة لحركة الوطنية المصرية على تنوع تياراتها، لكن وصول الإخوان للحكم خلق مشكلة فى الاتجاه المعاكس لما كان زمن المخلوع، فقد بدت دولة خليجية صغيرة وغنية، وكأنها الكفيل المالى المشترك لحكم الإخوان ولحركة حماس معا، وانتشرت فى أوساط الرأى العام المصرى دواعى الكراهية لهذه الدولة ومكفوليها، ثم بدت حماس كأنها وضعت بيضها كله فى سلة «رئيس» إخوانى متعثر، أو كأنها تحارب إلى جانب الإخوان، وفى معركة لا يصح لها أن تشارك فيها، ودون أن تنتبه إلى الأثر الفادح لهذا السلوك فى مصر بالذات، والتى تشهد الآن توزعا واستقطابا غير مسبوق، وتتعدد فيها مراكز التأثير داخل بنيان الدولة المصرية ذاته، لم تنتبه حماس لخطأ دخولها فى تفاصيل لحظة مصرية مضطربة، ولم تخاطب الرأى العام المصرى بصورة تزيل المخاوف والهواجس، ولم تقدر أنها قد تخسر عطف غالبية المصريين من غير الإخوان، وأنها تضع نفسها ربما دون قصد فى عداء ضمنى وصريح مع جماعات الشارع الثورى، ومع أحزاب وتيارات وطنية وديمقراطية واجتماعية متزايدة التأثير، وربما مع الجيش المصرى نفسه، والذى قدم مئة ألف شهيد وجريح ومعاق فى الحروب مع إسرائيل، وهو ما أدى إلى تدافع أزمات مكتومة وظاهرة، فلم تتعاون حماس بما يكفى لإجلاء حقيقة اختطاف ضباط شرطة مصريين بالقرب من الحدود، ولا تعاونت بما يكفى لكشف حقيقة قتل سبعة عشر ضابطا وجنديا من الجيش فى المنطقة ذاتها، وظلت تراوغ فى قضية الأنفاق، وتصدر عبر ممثليها تصريحات عنترية ضد قيام الجيش بهدم الأنفاق، والتى لم تعد لها من ضرورة بعد فتح معبر رفح، والذى ينبغى له أن يفتح على مدار اليوم لعبور الأفراد والبضائع، بينما «الأنفاق» خطر أمنى داهم، وعدوان ظاهر على السيادة المصرية، وقد يقبل به «الإخوان» تقديما لمصالح الأهل والعشيرة، لكن الجيش المصرى لايقبل، وأغلبية الشعب المصرى الساحقة كذلك، وهو ما يفسر مشاعر كراهية خطرة لحركة حماس تنمو فى نفوس المصريين، وإلى حد «شيطنة» حماس بالكامل، وربما شيطنة الفلسطينيين أيضا(!). وربما تكون «حماس» اليوم فى حاجة إلى اختبار وقرار بخصوص الوضع فى مصر، وفى احتياج إلى أن توازن بين الدخول إلى مصر من الباب الواسع، أو أن تظل فى حالة تسلل من شباك الإخوان الضيق، ففلسطين قضية وطنية مصرية بامتياز، وحركة حماس فى حاجة إلى إثبات «فلسطينيتها» بصورة تعلو على «إخوانيتها»، فالإخوان جاءوا إلى الحكم وسيذهبون، ولا نريد لعلاقة حماس مع مصر أن تذهب بذهاب الإخوان، وإن حدث فستكون الكارثة لحماس أولا، وهذا ما يدفعنا إلى التحذير قبل فوات الأوان نشر بتاريخ 18/3/2013 العدد 640